أهوال ديكتاتورية جديدة في ثياب “ديمقراطية شعبية”* رفيق خوري
النشرة الدولية –
ساعات من انقطاع “فيسبوك” وأخواتها أوقعت العالم في الظلام، وكشفت هشاشته بمقدار ما كشفت خداع هذه الشركات وجشعها إلى المال، ونشرها “خطاب الكراهية والمعلومات المضللة”، كما قالت فرنسيس هوغن المسؤولة المستقيلة من “فيسبوك”. لا بل إن العالم يواجه اليوم “أم الديكتاتوريات”، بصرف النظر عن انقسامه بين دول ديمقراطية ودول سلطوية. وهي معضلة تتجاوز ما تحدث عنه جورج أورويل في رواية “1984” التي كتبها عام 1948، حيث “الأخ الأكبر” يراقب الجميع وكل شيء حتى في الغرف المغلقة. إنها لعنة ونعمة في الوقت نفسه عبر إدمان السباق السريع جداً، الذي يأخذنا من ضيق الأيديولوجيا إلى اتساع التكنولوجيا. ديكتاتورية جديدة تعطي الديكتاتوريات التقليدية وسائل حديثة جداً للمراقبة والقمع. وهي على نوعين، واحد يسميه جويل كونكين “الإقطاع الجديد” في تحذير إلى “الطبقة الوسطى الكونية”. وآخر تطلق عليه صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية اسم “نقابة الجريمة الرقمية المنظمة”، ويحاول الرئيس جو بايدن والكونغرس إيجاد “ضوابط” له.
النوع الأول، بحسب كونكين، تمثله “المدن الذكية، والمدن الخارقة، والمدن المعولمة المحوطة بالأسوار، والمدن الرقمية”. وهي تعاكس النمو الحضري العضوي، بحيث تعمل بنظام خوارزميات لترشيد أنشطتنا والتحكم بأسلوب حياتنا”. من أجل ماذا؟ لكي “يلعب المديرون وأهل التكنولوجيا دور الإقطاع الجديد الذي يعمل على زيادة الثروة لدى الإوليغارشية وإفقار الناس”. وفي رأي الأكاديمي البريطاني ديفيد ليون، إن “المدينة المعولمة المحصنة بالأسوار والمسيطر عليها إلكترونياً هي جزء من مجتمع المراقبة، إذ يقع كل نشاط تحت أنظار الطبقة الحاكمة”.
ولا مهرب من هذا المصير. فالناس في مثل هذه المدن آلات للخدمة، تتحرك بكبسة زر وتبقى تحت أنظار الرقيب الذي يوقفها متى أراد. وهذا كان مزيجاً من الخيال وبعض الواقع عند جورج أورويل في تشريحه لأنظمة كان يؤمن بالأفكار التي قادت إليها من أيام ماركس وإنغلز، ومر بتجاربها عن قرب في ما سماه تشرشل “الستار الحديدي”، واعتراضه على ممارسات النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا. أما الآن، فإن الواقع صار أغرب من الخيال. إذ يقال إن لدى السلطة الشيوعية في الصين تكنولوجيا تتيح لها، ليس فقط مراقبة الناس في الشارع، بل أيضاً معرفة ما يفكرون فيه وهل هم مع النظام أو ضده.
والنوع الثاني تجسده الشركات الخمس الكبيرة، “غوغل”، و”آبل”، و “فيسبوك”، و”أمازون”، و”ميكروسوفت”، التي جمعت ثروات بأرقام فلكية، وصار من الصعب على أي شخص التخلي عن “خدماتها”. فهي تجمع “الداتا” الشخصية لمشتركيها وتبيعها أحياناً للسلطات الرسمية أو للشركات. وهي تفتح الفضاء لكل أنواع الأخبار الكاذبة والمزورة، إلى جانب الأخبار العادية. فكل مواطن يحمل هاتفاً ذكياً يستطيع أن يكتب ما يريد. وكل حزب أنشأ جيشاً يسمى “الذباب الإلكتروني” الذي يشن الحملات على خصومه. وأي دولة، ليس فقط روسيا والصين، صارت قادرة على التدخل في معارك الانتخابات الأميركية عبر تزييف المعلومات.
ما كانت تسمى “ديكتاتورية الرأي العام” هي اليوم “ديكتاتورية الجهل”. وما كان تروتسكي يتصور أنه “إدراك الحقيقة بالمقارنة بين الأكاذيب” أصبح “من واجبنا اليومي أن نكون حذرين من الحقائق”، كما قال الفيلسوف موريس ماريو بونتي. وحين قال الشاعر الروسي ألكسندر بوب، “قليل من المعرفة شيء خطير”، فإنه لم يتخيل أن نصل إلى أن يكون كثير من التزييف والجهل شيئاً أشد خطورة في العلاقات بين الدول، كما في حياة الإنسان في أي بلد.
كل شيء كان واضحاً ومعروفاً في مواجهة الدكتاتورية التقليدية، القمع والسجن والقتل وقطع الرزق والنفي. لكن سقوطها بقي ممكناً، ومعظمها سقط في الواقع بالثورات السلمية أو العنفية. أما الدكتاتورية الجديدة، فلا وسيلة للتخلص منها، لأنها صارت جزءاً من حاجات الإنسان اليومية وإدمانه وشغفه. والعودة إلى ما قبل التكنولوجيا ليست خياراً، وإن اختارت قلة العودة إلى الطبيعة خارج “المدن الذكية” وحتى المدن العادية. وأخطر ما في الدكتاتورية الجديدة هو التصرف كأن الفوضى المنظمة والمراقبة هي الديمقراطية الشعبية.