السلطة الفلسطينية تعبر عن إستيائها لتنظيم احتفال تهويدي في مقبرة مأمن الله بالقدس
عبرت السلطة الفلسطينية عن إستيائها إزاء تنظيم احتفال تهويدي، الاثنين المقبل، على جزء من مقبرة “مأمن الله” في مدينة القدس، التي تحتضن رفات المقدسيين والمسلمين، منذ ما يزيد على ألف سنة، جزءا لا يتجزأ من حرب الاحتلال المفتوحة ضد القدس، ومقدساتها، ومواطنيها، ويندرج في إطار محاولات تغيير معالمها الحضارية وهويتها العربية الفلسطينية.
وأوضحت بيان صادر عن وزارة الخارجية والمغتربين في السلطة، بأن هذا الحفل ينظمه عدد من المسؤولين رفيعي المستوى من إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، على رأسهم السفير السابق ديفيد فريدمان المقيم في مستعمرة “بيت ايل”، ووزير الخارجية السابق مايك بومبيو، وذلك في إطار مواصلة إسرائيل محو آثار هذا المعلم التاريخي من الوجود، والذاكرة، من خلال نبش قبورها، وبناء المتنزهات والملاهي فوقها.
وأضافت، ان إقامة ما يسمى بـ”متحف التسامح” التابع لمؤسسة “سيمون ويزانتال” الأميركية الصهيونية على جزء من مساحة المقبرة، تمت منذ عام 2010، بتسهيل وتعاون مع سلطات الاحتلال، ورغم اعتراضات قدمها عشرات المقدسيين في المحاكم المحلية وفي عرائض قدمت لمجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو.
وأشارت الوزارة إلى أنها تنظر بخطورة بالغة الى هذا الاعتداء الاستفزازي على مقبرة إسلامية تاريخية، وتعتبره انتهاكها صارخا للقوانين والأعراف الدولية.
وبهذا الصدد، طالبت الوزارة الإدارة الأميركية الحالية بعدم مشاركة مسؤوليها بهذا الاحتفال “البشع”، الذي يتناقض مع السياسة الأميركية بشأن مستقبل مدينة القدس، مؤكدة أنه لا يحق لأحد أي كان الاعتداء على أرضنا وأهلنا فيها، كما لا يحق لأي كان انتهاك حرمة مقدساتنا المسيحية والإسلامية فيها.
وطالبت المنظمات الدولية المعنية بإدانة ووقف مثل هذه الانتهاكات المتواصلة للحقوق السياسية، والثقافية، والتاريخية، والقانونية، والدينية الفلسطينية في القدس الشريف، عاصمة دولة فلسطين.
مقبرة “مأمن الله” أو “ماميلّا“
تُعَدّ مقبرة “مأمن الله” أو “ماميلّا“، واحدة من أكبر المقابر الإسلاميّة في مدينة القدس وأقدمها. يُشير بعض المصادر التاريخيّة المكتوبة إلى ازدياد أهمّيّة المقبرة منذ القرن الحادي عشر الميلاديّ، لتبلغ ذروتها في الفترة المملوكيّة (ق 12 – 16م)، من حيث دلائل الدفن المكتشفة فيها، أي القرن الثالث عشر الميلاديّ، وقد استمرّ الدفن فيها حتّى القرن العشرين.
دُفنت في المقبرة فئات أبناء المجتمع كافّة؛ من أثرياء المدينة، ونخبة المجتمع من العلماء والحكّام والعسكريّين والشخصيّات الدينيّة، إلى جانب الميسورين والفقراء، وهي تحتوي على النظام المائيّ الّذي زوّد سكّان المدينة بالمياه، على مدى الحقب التاريخيّة المختلفة. إنّ ما يحيط بركتها من البقايا الأثريّة، وما تحويه من حكايات حول المدفونين، تعلّمنا الكثير حول مجتمع مدينة القدس وسكّانها، منذ العصور الوسطى حتّى اليوم.
مشاريع التخريب
على الرغم من ذلك، فالمقبرة معروفة للقلّة القليلة من الناس؛ فإلى جانب التخريب المادّيّ الّذي حلّ بالمقبرة، دُفن الكثير من تاريخ المدينة؛ إذ أثّر التوسّع العمرانيّ في القرن العشرين وسياسات التهويد الإسرائيليّة بشكل كبير فيها، وكلّ ما تبقّى منها لا يزيد على مساحة 20 دونمًا، من أصل قرابة 138 دونمًا كما وثّق “المجلس الإسلاميّ الأعلى” في فترة الانتداب البريطانيّ على فلسطين، الّذي بدأت في ظلّه مخطّطات تخريب المقبرة، بهدف إقامة حيّ بطابع أوروبيّ، إلّا أنّ تلك المخطّطات لم تتمّ؛ بسبب اندلاع الثورة الفلسطينيّة الكبرى عام 1936.
أسهم التطوّر العمرانيّ في الإضرار بالمقبرة، كما أنّ الصراع الإسرائيليّ – الفلسطينيّ، وما شهدته نتائج نكبة عام 1948، أثّرا في زيادة الضرر. بعد النكبة، قُسّمت المدينة إلى قسمين، وأصبحت المقبرة تابعة للسيادة الإسرائيليّة، ومنفصلة عن السكّان العرب، لتغدو جزءًا من سياسات تهويد المدينة العمرانيّة.
منذ النكبة حتّى اليوم، اتّخذت دولة إسرائيل وبلديّتها الاحتلاليّة في القدس، سلسلة من الإجراءات العمرانيّة الّتي خرّبت المقبرة، من ضمنها شقّ “شارع هليل” وشارع “منشيه بن يسرائيل“، وإنشاء حديقة ألعاب ترفيهيّة باسم “حديقة الاستقلال”، وبناء مدرسة “هنيسوي“، وإقامة شبكات البنية التحتيّة كمياه الصرف الصحّيّ والكهرباء، وبناء “متحف التسامح” الّذي جُرِفَ بسببه 1000 قبر، بالإضافة إلى إقامة مقهًى.
مقام الشيخ الدجاني
أحد أبرز الشخصيّات المدفونة في المقبرة، مؤسّس عائلة الدجاني في فلسطين، الشيخ أحمد بن علي بن علاء الدين الدجاني، المولود عام 1471م، في قرية دجانية الواقعة على بعد 8 كم شمال رام الله اليوم، وأصبح اسمها الجانية، وهو متوفّى عام 1561م. كان الدجاني عالمًا كبيرًا ومن أقطاب الصوفيّة، جذب إليه الكثير من المريدين، ونُسب إليه العديد من الكرامات، وهي من السمات الّتي عُرف بها شيوخ الطرق الصوفيّة آنذاك. ارتبط الدجاني بمقام النبيّ داود، من خلال حصوله على كتاب وقف من السلطان سليمان القانونيّ، ومنذ ذلك الحين استقرّت عائلة الدجاني في محيط مقام النبيّ داود، وأصبحت تُعرف بعائلة الدجاني الداوديّ. ويُشار إلى أنّ أبناء العائلة تولّوا مهمّة السدانة والخدمة في مقام النبيّ داود، في الفترة العثمانيّة، مرورًا بالانتداب البريطانيّ، حتّى نكبة 1948.
إنّ قبر الصوفيّ الدجاني، في مقبرة “مأمن الله”، يقع داخل مقام معروف بمقام الشيخ الدجاني، وكما هي الحال اليوم في المقبرة، من حيث استمرار التخريب والتدمير؛ فقد سيطر على المقام شخص إسرائيليّ عام 1986، أزال القبور بعد تغطية الجدران الداخليّة بالمرايا، وأقام حانة لبيع الخمور في المكان.
لاحقت عائلة الدجاني المعتدي قانونيًّا، وعام 2012، استطاعت العائلة أن تعيد حجرة المقام إلى ملكيّتها، وإجراء الترميمات على حسابها الخاصّ. إنّ الزائر للمقبرة يمكن ملاحظة أنّ الحجرة مقفلة، ومَنْ يريد زيارة القبر يمكنه التوجّه إلى ممثّل العائلة. يُذكر أنّ الحجرة تحتوي على شاهد قبر حديث، وُضع بعد أن جرى الترميم.
إنّ ما تعرّض له مقام الشيخ الدجاني، من محاولات تدمير، يعبّر عن الواقع الراهن للمقبرة، الّتي تعرّضت وتتعرّض للتخريب والتدمير؛ ففي حالة مقام الشيخ الدجاني استطاعت العائلة أن تلاحق المعتدين، وتصدّهم، وتستردّ المقام، وتحافظ عليه، في حين أنّ عشرات الانتهاكات والاعتداءات تكون يوميًّا في أرض المقبرة، من دون أن تجد مَنْ يصدّها.
يكفي القول إنّ جهدًا أهليًّا لعائلة الدجاني، أدّى إلى المحافظة على مقام مؤسّس العائلة، في حين أنّ غياب مَنْ يحافظ على ما تبقّى من المقبرة، كفيل بأن تستمرّ الانتهاكات فيها، ومحو جانب مهمّ من تاريخ القدس.
أحمد محمود