أوجه شبه بين ترمب وبايدن في التخلي عن الحلفاء
بقلم: باتريك كوبيرن

النشرة الدولية –

لم تكن الظاهرة “الترمبية” (نسبة إلى دونالد ترمب) كما بدت عليه بالنسبة لباقي العالم في ما يتعلق بما تقدم عليه أميركا على خلاف أقواله. فلطالما كانت النبرة عدائية بيد أن ترمب فعل كل ما في وسعه لعدم شن أي حرب. أما في ما يتعلق بشعار “أميركا أولاً” (America First) فلم يكن الأمر مرتبطاً بولايات متحدة انعزالية بل كان يدور أكثر في فلك تصرفها بشكل أحادي في ما رأى ترمب أنه يصب في مصلحتها.

ولا تبدو “البايدينية” (نسبة إلى الرئيس الحالي جو بايدن) أكثر اختلافاً عن الترمبية. فقد نفذ جو بايدن الصفقة القاسية التي أبرمها دونالد ترمب مع “طالبان” بحذافيرها وصادق في فبراير (شباط) 2020 على التخلي عن الحكومة الأفغانية التي كانت مستثناة من المفاوضات التي تتعلق بتحديد مصيرها. ولم يعرف حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون سوى القليل عن خطة الانسحاب الأميركية من مطار كابول على الرغم من أنها كانت قيد التحضير والتنفيذ.

واليوم، تابع بايدن سياسته الأحادية في أفغانستان مع إعلانه المفاجئ عن اتفاق أميركا إلى جانب بريطانيا يقضي بمساعدة أستراليا على بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية لنشرها في مواجهة الصين في السنوات المقبلة. ومن خلال الاستغناء بشكل تعسفي عن فرنسا في الصفقة التي تبلغ قيمتها 66 مليار دولار، والتي تهدف إلى تزويد أستراليا بغواصات تعمل على الديزل، تصرف بايدن على طريقة ترمب الفعلية وتسبب في إهانة عارمة لحليف تفوق ما كان ليسببه لأي عدو محتمل.

بالطبع اتسم رد الصين على تحالفٍ موجه بشكل واضح ضدها بالغضب ولكنه موقف معتدل مقارنة بالصدمة في أوساط كبار القادة الفرنسيين جراء الذل العلني الذي تعرضوا له. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان: “يذكرني هذا القرار القاسي والأحادي وغير المتوقع بما كان ترمب يقوم به. أشعر بالغضب والمرارة. هذا أمر لا يحدث بين الحلفاء. إنه فعلاً طعنة في الظهر”.

لعل الأمر أشبه بالخيانة، بيد أن الفرنسيين أظهروا بعض السذاجة فضلاً عن شيء من قلة الذكاء وتجلى ذلك في عدم توقعهم بأن ذلك سيحدث يوماً ما. فعندما يتعلق الأمر بطعن حليف في الظهر، لا بد من الإشارة إلى ما حدث، أخيراً، في أفغانستان وما حصل قبل سنوات قليلة عندما صدم ترمب السعوديين الذين كانت تربطه بهم علاقة وثيقة للغاية حين فشل في الرد على هجوم صاروخي مدمر على منشآت نفطية سعودية في سبتمبر (أيلول) 2019، بدا واضحاً أن إيران تقف خلفه آنذاك.

وشعرت الدول الخليجية بقلق بالغ إبان اكتشافها أن المظلة الأميركية التي تحميها والتي كانت توليها ثقتها في ما مضى هي خلاف ما تبدو عليه. واتضح أن تلك المظلة لا تشمل خيار أن يخوض الحليف أي حرب بالنيابة عنهم، وهي خلاصة عززتها الصدمة الأفغانية وتعيد تحديد السياسات الإقليمية بشكل جذري.

وفي هذا السياق، يزخر تاريخ الدبلوماسية بشكاوى الذين تخلت عنهم الولايات المتحدة، سواء في باريس أو الرياض أو أي مكان وجدت فيه الحكومة الأفغانية المشتتة مأوى لها. ففي النهاية، كان الرئيس شارل ديغول هو نفسه صاحب المقولة الشهيرة “المعاهدات تشبه الزهور والفتيات الصغيرات، يَدُمن لفترة بقائهم وحسب”.

لعل وقائع السياسة الراهنة حول عدم ثبات العلاقات بين الدول هي صحيحة نوعاً ما، بيد أن صفقة الغواصات الأسترالية-البريطانية- الأميركية (أوكوس) Aukus، والتي تأتي بعد الهزيمة والشغب في أفغانستان وعدم الدفاع عن المملكة العربية السعودية تعطي انطباعاً بأن تغييرات تكتونية هيكلية تشق طريقها وتقلب مسار عمل هذا العالم. فبايدن الذي كان مشبعاً بخطاب “أميركا عادت” America is back في بداية ولايته الرئاسية، أصبح اليوم يعامل بعض حلفائه بالطريقة المتعجرفة نفسها التي كان ترمب يعتمدها.

ويشكل تحالف أوكوس نوعاً من التراصف الأنغلو- ساكسوني ويهدف على الأرجح إلى إغضاب الفرنسيين وإقلاق الاتحاد الأوروبي. كما أنه سيشجع الدول الأوروبية على تبني سياسة متمايزة وأقل مواجهة تجاه الصين مقارنة بالماضي. وفي حال فشلت هذه البلدان في القيام بذلك، وهو أمر محتمل نظراً إلى عجزها في الأزمات المتلاحقة في الشرق الأوسط والبلقان، ستصبح مهمشة أكثر في نهاية المطاف.

ولكن في المقلب الآخر، تُعتبر صيحات التهليل والابتهاج في أوساط مؤيدي “بريكست” أن بريطانيا كانت على حق في مغادرة سفينة الاتحاد الأوروبي الغارقة، سابقة لأوانها لأن اعتماد بريطانيا على الولايات المتحدة هو أكبر من أي وقت مضى. يحمل هذا الأمر مزايا غير متوقعة ومشكوك فيها أيضاً على غرار ما اكتشفته بريطانيا خلال حرب العراق التي انضمت إليها كالحليف العسكري الرئيس للأميركيين في عام 2003 وأمضت الأعوام الستة التالية تحاول الهروب من وحول تلك الحرب من دون إهانة الأميركيين. وتمثل اختيار الطريقة الكارثية في إرسال القوات العسكرية البريطانية إلى ولاية هلمند في أفغانستان والتي تبين أنه مكان أكثر خطورة من العراق.

ويحمل الانضمام إلى الولايات المتحدة وأستراليا في تصعيد المواجهة مع الصين مخاطر مشابهة. فهو ليس “تحولاً استراتيجياً عميقاً” كما يزعم بوريس جونسون بما أن شيئاً لن يحصل خلال ما يفوق عقداً من الزمن. أما تضخم خطر اندلاع حرب باردة جراء امتلاك الصين أكبر بحرية في العالم فهو أمر عبثي [لا يعتد به] لأن السفن الصغيرة الحجم تم احتسابها جزءاً من الأسطول الصيني.

ولكن، ما الذي ستفعله بريطانيا في حال كان المحاربون “الباردون” الجدد [أطراف شاركت في الحرب الباردة] محقين في تحذيراتهم وقامت الصين فعلاً باجتياج تايوان؟ إنه سؤال مشروع ومنطقي لبريطانيا “العالمية” لأن ذلك يعني أن تقف بريطانيا بصمود في وجه خصوم أكثر قوة كالصين وروسيا على أمل أن يقوموا بضبط النفس أو أن تقدم لها الولايات المتحدة دعماً غير محدود.

بالتالي، يشكل هذا الاعتماد خطوة محفوفة بالمخاطر لأن السياسة الخارجية الأميركية محددة من خلال أجندة سياستها المحلية ولا تتخطى الوقت الراهن. والدافع وراء إعلان بايدن عن تحالفه الجديد ضد الصين هو محاولته في أن يستعرض القوة ويشتت الانتباه عن الهشاشة التي تظهّرت خلال الخروج الأميركي الفوضوي من كابول. ومع هيمنة هذه الأحداث على شاشات التلفزة الأميركية طيلة الشهر الماضي، تسببت هذه الفوضى في تدني شعبية بايدن في استطلاع الرأي إلى 42 في المئة في حين ارتفعت نسبة معارضته إلى 50 في المئة، وهي المرة الأولى التي تكون فيها نتائج استطلاعاته سلبية منذ توليه الحكم.

لا شك أن بريطانيا تود التموضع كقوة عظمى ولكنها لا تملك الوسائل للقيام بذلك ما عدا دور حامل رماح متواضع للأميركيين. ولا يمكن إلقاء اللوم في كل هذا على جونسون و”المطبّلين” له على طاولة الحكومة لأنهم يستفيدون من الاعتقاد الشعبي بأن بريطانيا تملك موارد قوة لم تعد تعمل.

قد يكون دومينيك راب فقد منصبه كوزير للخارجية لأنه “تبختر” طويلاً قرب حوض السباحة في فندقه الفخم في جزيرة كريت فيما كانت حركة “طالبان” تستولي على كابول. ولكن حتى لو عاد راب إلى لندن على وجه السرعة أو حتى غرق في حوض السباحة في الفندق، فلم يكن ذلك ليغير الأحداث في أفغانستان قيد أنملة.

يُسبغ سوء الفهم الشعبي والإعلامي حول القوة الحقيقية للحكومة البريطانية جواً من عدم الواقعية على شطر كبير من الحياة السياسية البريطانية في الداخل والخارج على حد سواء. فمنذ ست سنوات، استعر النقاش حول إذا ما كان يتحتم على بريطانيا أو لا أن تشن غارات ضد أهداف لـ”داعش” في سوريا، وعندها تجاهلت كافة الأطراف حقيقة أن بريطانيا لا تملك المقاتلات أو الذكاء الاستخباراتي للإقدام على ما يُعتد به، وهو أمر أقر به في وقت لاحق قائد القوات الجوية الملكية حينها.

إن التظاهر بأن بريطانيا أصبحت مجدداً قوة في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي أمر لا يمكن أن يتحقق سوى بالاعتماد الكلي على الولايات المتحدة وتجاهل الدروس المستخلصة من حربي العراق وأفغانستان.

* سيصدر كتاب باتريك كوبيرن الجديد بعنوان “خلف خطوط العدو: أخبار الحرب والفوضى في الشرق الأوسط “Behind Enemy Lines: War News and Chaos in the Middle East عن دار فيرسو Verso  في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى