شويكه سيدة الحكايات – 11 غطرسة الفقر
الدكتور سمير محمد ايوب –
النشرة الدولية –
فَقرُنا آنذاك لمْ يكُن إنسانياً، ولم يكُن جميلاً بأيِّ حالٍ من الأحوال. كان فقراً مُتراميَ الأطراف، فقرا محشواً بالفقر، من كلِّ حدبٍ وصوب. كان عنواناً وشاهداً على محطّاتٍ من العمرِ مُؤلمة. فقرٌ تشمُّ فيه عِطرَالماضي، وطقوسه التي قاسمتنا الكثير من صبرنا الجميل، لِنُبحرَ فيه بسلام، ولِنعبُره ببراعة واقتدار. التفكير فيه وفي تبعاته كان مطوَّلا. وكان أحد أهم واجباتِنا اليومية الأساسية.
فقرٌ كانت فيه قُرانا بلا بلدياتٍ أو أمانات كبرى أو صغرى، لتحظى بشيءٍ من الصرف الصحي، اوالعبّارات او الجسور. ومع هذا، كانت قُرانا أنظف من كثير من مُدن هالايام. ولم ينجح مطرٌ مهما طالَ واستطال، كنّا نُسمّيه كَبْ مِن الرَّبْ، من قطع طُرقاتنا أو تعطيل حركتنا. فقد أنعم الله علينا، بمنظوماتٍ جمعية شمولية، ثَريَّةٍ بقيمِ تضامُنٍ وتكافلٍ وتعاضد، وعادات نظافه ذاتيه وعامة.
آنذاك، كانت أفراُننا طوابين، من كلّ السعات والأحجام، غير مُجبرين باسم حرص بيئوي مُفْتْعَل، على تركيب شفاطات دخان لها، وقودها كان رَوْثَ دوابنا ونفايات بيوتنا، مع قلة تلك النفايات ومحدوديتها.
وسياراتنا كانت أساطيل من حميرٍ من كلّ الموديلات والألوان والأحجام. كنا نركبها بدون أحزمة أمان، ولا أكياس هواء واقيه. وشاحناتنا الناقلة جِمالٌ وبِعرانٌ صبوره.
ومياهنا تُرْسِلُها أسقفُ بيوتنا النظيفه، وساحات البيادر المٌصانة سلفاً، إلى آبار للجمع، حفرها الآباء في كل مكان، آبارٌ خاصةٌ وعامة، يستسقي منها كل من يريد. كانت سِقايَةٌ يشترك بها كل خلق الله.
حَلالُ آبائنا لم يكن يحتملُ التّبذير مع قلته، لذا كان فِطامُنا مُبكرا. نَتَحلّى على صحنِ هِيطَلِيّة أو بَحْتِة أو مِهداوية أو رز بالحليب، أو شقفِة هريسة أو نمّورة ، أو حبة زُنْكُل ( زلابيه أو عوامه ) ، أو لقمة إكسيبَه أو حبة راحه مع بسكوته أو إصبع حلاوه، أو حبة ملبس حامظ حُلو او وسايد. ونَروي عطشنا من حين لأخر، أو في مناسبة سعيدة ما، كُباية خرّوبٍ أو عرق سوس، وفي أحسن الأحوال قزازة كازوز أو عَسيس أوإصبع أسكيمو أو كاسة برّاد ليمون يسمونه سلاش هالايام.
درَسنا على طبالي خشب أو على حجر، وسراجٍ وفتيله، أو ضو نمره 4 ، وقزازة ياسين، أو شمعدان، وفي أحسن الأحوال على لوكس أبو شُنبَر.
والأهم ، اننا كنا بلا حِمية خاصة، أو ربطِ مِعَدْ أو شفطَ دهون، لم نكن سمان أو بدناء، بل كنّا كالرماح بفضل الحركة الدؤوبة ، واللعب المتواصل خارج البيت ، حركاتٌ إبتدعتها خيالاتنا، وحاجاتنا المُبهمة إلى الرشاقه. فلم يكن لدينا بلاي ستيشن، ولا ألعاب فيديو، ولا ألف قناة تلفزيون. ولم نكن نمتلك أجهزة فيديو، أو موسيقى هواتف خليويه ، أو حواسيب أو غرف دردشه عبر الانترنت. كانت أمهاتنا وعمّاتنا وخالاتنا وجدّاتنا ، هن حكواتي ليالينا الجميله المُقمره.
كان البردُ كاشفا لفقرنا، نرقص من لسعاته، نحتال عليه بجزماتٍ منْ باتا ومن عصفوركو، و بالبُخْنُق وملابس البُكَجْ ( الباله ) ، وبتداول الملابس المستعمله أخا عن أخ، وأختا عن أختٍ، وولد عن والد، وبنتا عن أم. وبمواقد من طين أبيض كنا نسميه الحِوَّر أو الّلاصَه ، وقودها دُقٌّ من جِفت الزيتون المحروق في الأفران ، أو من حطبٍ نجمعه سلَفا في الصيف وفي الخريف، ويُرَصُّ فوق مداخل البيوت. كان حطبنا أغصانا مكسورة من شجرٍ في حواكيرنا. سِجّادُنا كان حصيرا خشنا ، وفراشنا قليلٌ غير وثير، لم تكن مخداتنا ولُحُفُنا من إسفنج أو بولسترين أو ريش نعام، بل من قشِّ المَساند أو الجَواعد أو صوف الغنم المُنَجَّدِ سنويا. لا تزال خياشيمنا وجلودنا تختزن عَبَقَ ذاك الفراش الوثير آنذاك. وأظن أن بعضنا لم يَفِق حتى الآن من ذاك العَبَق.
كان فقرُ أكثرِنا كفصيلة الدم . يسري في الشرايين وفي الأوردةِ المُرهَقَة منه. مُوجعٌ كان ولكنه كان مُحَفِّزاً أيضا. لم نكن نَدَعُ ذاك الفقر يفرح بمعانداته لنا. كنا كلما إشتقنا لأحلامنا، لا نبحث عنها في طيات أو دقات الفقر ذاك، ما بين مَقْتِنا له وأشواقنا لشيء من أحلامنا نطل عليها، قاتَلْنا بضراوة مع أهلنا لتغييره ، أو على الأقل استيعاب شيءٍ من مساراته ، واحتواء شئ من تبعاته.
نجح بعضنا في ذلك ، بعد أن اضطر مبكرا أحد أفراد العائلة ، للسفرإلى واحدة من ممالك البترول وإماراته ، ليعمل هناك. وتحقق الكثير من التغيير لبعضنا، بعد بركة التخرج من ثانويته. حينها صعد البعض منا بامتياز إلى شيءٍ من أحلامه، على أشلاء فقرٍ يتهاوى، لا على أشلاء أحد مِنّا.
اجملُ ما في ذاك الفقر، إن كان حقا فيه شيءٌ منَ الجَمال، أنّه قد حرّرنا من عاهاتٍ اجتماعية كثيرة ، لعلّ أبرزها كان، أنَّه أبعد عنّا أصدقاء المصلحة . كنّا في همِّ الفقر شبهَ سَواء. جمَعَتنا شجرَتُه بساقِها وبِجذورِها، وفوقَ الجذور تنوّعت الأغصان وتفرّعت في كل اتجاه.
كلّما ساء مزاجُ ذاك الفقر، ولله الحمد ، كانت أحلامنا كالأصدقاء الخلّص ، أول الحاضرين مُبتسمةً مُتفائله ، تُمسكُ بأيدينا في مسيرة الأفقِ المُمْتَدّ .
للحديث بقية ، فلا تذهبوا بعيدا رجاءً……