الفن العربي ينسج أسطورة واقعية من ملعقة ونبتة صبّار
النشرة الدولية –
ميموزا العراوي –
ألهمت الملعقة التي استعملها ستة معتقلين فلسطينيين فروا من سجن جلبوع الإسرائيلي شديد الحراسة الفنانين العرب ليجسّدوا هذا الهروب الأسطوري في أعمال فنية تنوّعت بين لوحات ومنحوتات وجداريات ورسومات كاريكاتير تُمجّد الفرار وتوثّق الانتصار الذي أتى عبر ملعقة معجزة باتت إلى جانب نبتة الصبّار الفلسطيني رمزا جديدا للحرية والنضال.
“الموتيف” في الفن، هو العنصر أو النمط التفصيلي المتكرّر في الأعمال الذي ينطلق دوما من واقع محسوس أو حضور أثيري. وقد حفل عالم الفن التشكيلي تاريخيا بأمثال لا تحصى لظهور “الموتيف” الكفيل بأن يدلّ على هوية الشخص المرسوم مهما كانت ملامحه مُبهمة، أو يدّل على حادثة حرب محدّدة من بين الآلاف من الحروب التي خاضها البشر ضد بعضهم البعض.
ويختلف الأمر في عالمنا المعاصر، فهناك الكثير من الرموز التي تنحى بأن تكون ليس فقط رمزا مشيرا إلى أمر أو فكرة ما، بل تتّجه نحو كونها، ولمجرد حضورها، ساردة للقصة التي تدور في فضاء العمل الفني.
هذا ما ينطبق على منحوتة “الملعقة” للفنان الكويتي ميثم عبدال الذي جسّد فيها يدا قوية قابضة على ملعقة. الملعقة التي “قيل” أنه بها حفر أسرى فلسطينيون في أوائل شهر سبتمبر الماضي طريقهم الطويل إلى الحرية. ويجدر الذكر هنا أن الأسرى قالوا بأنهم استخدموا الملاعق من بين الأشياء التي حصلوا عليها، وليس حصرا.
كما ينطبق ذلك على نبات الصبّار في أعمال فلسطينية جديدة أحضر إليها الفنانون، الصبّار كجزء حقيقي من واقع يسرد تفاصيل قصة محدّدة ترتبط حتما بما يعنيه الصبّار بالنسبة إلى الفلسطينيين فضاعف من قيمة الصبّار الذي هو واقع مباشر ورمز مُكرّس في آن واحد.
تعقيبا على ما سبق، تناقلت الأنباء خلال شهر سبتمبر الماضي خبر فرار ستة معتقلين فلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي، المعروف بأنه يتّبع أقصى أنواع ودرجات الحراسة وأساليبها، عبر نفق حفره الفلسطينيون السجناء امتد إلى عشرات الأمتار.
وحتى بعد إعادة إلقاء القبض عليهم من قبل جيش الاحتلال استمر خبر هروبهم ينتشر ويكبر حتى تحوّل إلى أسطورة، تُرجمت في أعمال فنية، تؤكّد قبل كل شيء أن مكان الأساطير ليس فقط في الماضي ولا هي تنمو حصريا حيث تنتشر الظلال الغامضة، بل هي لكل زمان لا زال فيه الإنسان يتمتّع بنظرة لم يغشاها التعب.
نظرة لا زلت تعكف على انتزاع الدهشة من قلب الظلم، ثم سقيها ببشائر إحلال العدالة وإن كانت مؤجلة إلى حين.
أكثر ما يلفت في حيثية نشوء أسطورة الفرار في الأعمال الفنية أنها استمرّت بمعزل عن أبطالها، أي الأسرى، في التبلور واكتساب صيغ بصرية جديدة شرعن مصداقيتها الفنانون في أعمالهم الفنية التي تنوّعت بين لوحات ومنحوتات وجداريات ورسومات كاريكاتير.
حضر في تلك الأعمال أولاّ نبات الصبّار، ليس كما هي العادة في أعمال الفنانين الفلسطينيين أي كرمز، أو كفكرة، بل كواقع هو جزء حقيقي من عملية الهروب، وسنأتي على ذكرها لاحقا على لسان الأسرى.
وحضرت ثانيا في تلك الأعمال الفنية أداة بسيطة وهي ملعقة. هي أيضا، كما الصّبار حضرت كجزء من واقع حقيقي قطع طريقه مباشرة ممّا أخبرنا إياه الأسرى حول كيفية هروبهم وصولا إلى آذان الآخرين.
الآخرين الذين ما لبثوا أن حوّلوا سرد الأسرى إلى أسطورة بمفتاح سحريّ ليس هو إلاّ ملعقة صدئة في يد أبطال، هم، لشدة واقعيتهم أصبحوا وأداتهم لا يحيلون، كما الرموز، إلى مكان أو فكرة، بل هم المُحال إليهم.
بين الأسطورة والرمز
لم يقع إنتاج هذه الأسطورة على عاتق الفنانين التشكيليين والشعراء والموسيقيين فحسب، بل ذكّاها وأغناها كلام الأسرى ذاتهم بعد أن تمّ القبض عليهم. فخلافا لما توقّعه الكثيرون، لم تكن ردة فعل الأسرى العائدين إلى الأسر من جديد، بعد استغراقهم لمدة تسعة أشهر في حفر نفق خروجهم إلى الحرية، تنضح بالكآبة أو بالقهر، بل كانت على الرغم من مرارتها تضيء فيها شموس باسمة وكثيرة أدفئت بها المخيّلة الجماعية وأطلقت الإبداع الفني.
لا شك أن ذلك من أهم الأسباب التي دفعت بعملية الهروب إلى مستوى الأسطورة في وجدان الفلسطينيين وكل من يؤازرهم في قضيتهم لتصبح أكثر أهمية من جريمة إعادة سجنهم من جديد، على الأقل إلى الآن.
آن لم يُحرّك فيه أي ساكن بشأن هؤلاء الأسرى والآلاف من الأسرى الآخرين الماثلين في سجون الاحتلال لسنوات عديدة.
قد يرى البعض في إعطاء أهمية للفرار أكثر من إعطائها لحادثة إعادة الأسر منتهى القسوة وضيق النظر، ولكن حتما لن يرى ذلك كل مضطلع على التركيبة النفسية للفلسطيني، الفلسطيني الذي اعتاد على استخراج القوة من الضعف والأمل من اليأس، عادة مُكرسة في الفن التشكيلي الفلسطيني إلى يومنا هذا.
أما ردة فعل الأسرى الأبطال الذين أُعيدوا إلى سجنهم، فهي التي غذّت المخيّلة الفنية لدى الفنانين على اختلاف أساليبهم الفنية. بعض الأعمال الفنية كتبت بصريا الفصل الأخير لعملية حفر النفق وكلّلته بالنجاح الفوري، وبعضها الآخر خلّد “العنصر الدلالي”، أو “الموتيف” المُشير إلى حادثة الفرار هذه دون غيرها، صاهرا إياها بالواقع البحت.
واقع/ رمز مؤهل كي تخرج منه رموز وإشارات أكثر تطوّرا في المعنى وفي التجلي الفني. وهي حتما ستجد طريقها يوما إلى الذاكرة الجماعية الفلسطينية، لتتحوّل هي الأخرى إلى مصائر شأنها دوما خدمة الحق الفلسطيني.
وبالعودة إلى ما قاله اثنان من الأسرى بعد اعتقالهما من جديد والذي شكّل في حد ذاته، كما ذكرنا آنفا، مصدر وحي للفنانين، صنّاع الأساطير الحقيقية.
قال أحدهم “أجمل خمسة أيام في حياتي، رؤية فلسطين لن أنساها بالمرة هو حلم وتحقّق.. أكلت التين والبوملي والبرتقال الأخضر. رأيت أطفالا بجانب أهاليهم لأول مرة منذ إثنين وعشرين عاما.. قبّلتهم واحتضنتهم.. طالما بقيت على قيد الحياة سأبحث عن حريتي مرات ومرات”.
وقال أسير ثان محكوم مدى الحياة، وبدا حسب مصادر صحافية منهكا ومتعبا من جراء التعذيب والتنكيل الجسدي وإخضاعه للتحقيق يوميا لمدة ثماني عشرة ساعة متواصلة “كانت أجمل خمسة أيام في حياتي، تذوّقت فيها طعم ثمرة الصبّار لأول مرة منذ إثنين وعشرين عاما من مزارع مرج بن عامر، وتجوّلت في أراضينا المحتلة منذ العام 1948”.
ليس من سمع من الأسرى أنه استخدم الملعقة من بين أشياء أخرى للهروب، هو مُزيف للحقائق، حينما اختار أن يضع في لوحته ملعقة ولا غيرها أداة، ولا الصبّار الذي بات منذ زمن بعيد رمزا للنضال الفلسطيني يرضى بأن يكون مجرّد رمز غابر وأقل واقعية من هذا الذي ينبت اليوم وفعلا في أرض فلسطين وتحديدا في مزارع مرج بن عامر.
هذا الصبّار الذي استضاف الفلسطيني الأسير وأذاقه وطنه بلحظة. إنه زمن الواقع الغاص بالرموز حدّ أن يكونها، فتحية لصنّاع هذا الواقع.