اللبنانيون ضحايا خطأ منهجي خطر في طريقة التعاطي مع “حزب الله”
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
أخبرتني إعلامية لبنانية معروفة بحياديتها وموضوعيتها، كانت تتابع ما سمي باشتباكات الطيونة، أمس أنّ متظاهري “حزب الله” و”حركة أمل” الذين تحوّلوا، بسرعة، إلى مسلّحين، راحوا، بين جولة إطلاق نار وأخرى، يقولون لها ولمن هم بالقرب منها، وابتسامات الرضى ترتسم على شفاههم: “لقد احترق (المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت) طارق البيطار. وليرِنا مَنْ يرفضون تطييره كيف يُمكنهم الإبقاء عليه”.
لم تكن الدماء المراقة، ولا العائلات المرتعبة، ولا التلامذة المختبئون في أروقة مدارسهم، ولا البلاد المنقادة الى مواجهات تعيد شبح الحرب الأهلية الى الواجهة والذاكرة، تعنيهم. وحده “تدحرج” رأس المحقق الذي طالب به الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله كان يسكن هواجسهم.
رسالة هؤلاء حتى قبل أن ينجحوا في استقطاب اشتباك مسلّح مع أبناء المنطقة التي دخلوا إليها بصراخ مذهبي وبشعارات طائفية وبسلوك ترهيبي، كانت واضحة لا لبس فيها: نريد رأس البيطار سواء على طبق مجلس الوزراء أو في نيران الشارع.
المصيبة الوطنية، في هذه الحالة مزدوجة، فـ”حزب الله” وتابعته “حركة أمل” ليسا قوتين معارضتين، كما هي عليه حال حزب “القوات اللبنانية” المشتبه به في التصدّي لفئة تخريبية من المتظاهرين، بل هما قوتان أساسيتان ليس في تشكيلة الحكومة فحسب بل في صناعتها، أيضاً.
وذهاب “الثنائي الشيعي” إلى الشارع من أجل الضغط على الحكومة التي هما ركنان أساسيان فيها يعني أنّهما كشفا ما كان قد بقي مستتراً من وجهيهما الحقيقيين: نحن مع هذا النظام عندما يخضع لأوامرنا. ونحن أعداؤه إذا ما تردّد في تنفيذ ما نطلبه.
وهذه الحقيقة المرّة التي تعرفها غالبية اللبنانيين وتتجاهلها غالبية السياسيين، هي “أمّ الكوارث” التي يعاني منها لبنان ويتكبّد اللبنانيون أثمانها الغالية.
إنّ فكرة بناء دولة بالاشتراك مع “حزب الله” هي وهم كبير سبق أن شرحه بالتفاصيل الدقيقة أوّل رئيس إيراني، بعد “الثورة الخمينية” أبو الحسن بني صدر، في كتابه: “مؤامرة الملالي”.
إنّ “حزب الله” بطبيعته التكوينية لا يقبل شركاء بل يريد تابعين. يمكن أن يتقبّل بعض المختلفين عنه، لفترة زمنية “طارئة” لكنّه سرعان ما ينقلب عليهم ويحوّلهم الى منفيين أو معتقلين أو قتلى. لا يمكنه أن يتحمّل “كسر كلمته”، فهو عندما ينطق يأمر، وهو عندما يأمر يزعم أنّه يُنفّذ إرادة سامية.
ولأنّه كذلك فهو محكوم بتنمية قدراته العنفية. يعرف أنّ المجتمع يستحيل أن يتقبّل رؤاه، ولذلك، فإنّه يعمل بلا هوادة على إخضاعه، بالقوة.
ما شهدته بيروت، يوم أمس هو أبعد من اشتباك. إنّه “انقلاب” كامل على “الشركاء”، من أجل تطويعهم أو نبذهم.
إنّ الحكومة التي يريد “حزب الله” تطويعها تحت طائلة إسقاطها هي، في واقع الحال، أكثر الحكومات “طواعية”: تشكّلت بتدخّل منه. أخذ الحقائب التي وقعت خططه عليها. جاء بشخصيات ترتجف عند سماع اسمه، ولاء أو رهبة. حرص على كيل المديح لها حتى تلك اللحظة التي وجدت فيها أنّ قرار الإطاحة بالمحقق العدلي طارق البيطار الذي لا يحبّه أيّ من أطرافها أكبر من قدرتها على التحمّل، نظراً لتداعيات خطوة مماثلة داخلياً ودولياً.
وهذه ليست المرّة الأولى التي يلجأ فيها “حزب الله” إلى نهجه الإنقلابي هذا. إنّه يحكم لبنان، بفضله.
بحجة رفضه قرارين صدرا عن مجلس الوزراء، نظّم ما سمي بـ”غزوة” السابع من مايو 2008.
وبحجة رفضه إنشاء محكمة دولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، شلّ البلاد لأشهر طويلة، ممّا أدى الى أزمة اقتصادية كبرى.
وبحجة رفضه قرارات المحكمة الدولية، وجّه تهديدات صريحة وعنيفة وخطرة للقوى العكسرية والأجهزة الأمنية إن هي حاولت تنفيذ هذه القرارات.
وبحجة إصراره على تنصيب “حليفه” ميشال عون رئيساً للجمهورية، رعى أطول عملية فراغ عرفها تاريخ الجمهورية اللبنانية.
وفي ردّ على “ثورة 17 أكتوبر” 2019 هدّد بالحرب الأهلية، و”فلّت” بعض “قبضاياته” على “الثوّار” من أجل أن يقدّم لهم نموذجاً بسيطاً عن مقاصده.
وهو، كلّما تمرّد، طرف سياسي على إرادته ما توانى عن تذكيره بقوّته التي تعني “غزوات” مشهودة واغتيالات مؤكّدة.
وحالياً، إنّ تفلّت المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار من سطوته وذهابه بإجراءاته الى مستويات لا تناسبه، أعادا “حزب الله” الى طبيعته، على قاعدة: “يستطيع الذئب أن يغيّر جلده ولكن ليس طبعه”.
وهذا يعني أنّ الطبقة السياسية اللبنانية، طمعاً هنا ورهبة هناك، بغطاء بعض الإقليم وبعض الدول الكبرى، ترتكب خطأ منهجياً ضد نفسها، ولكنّ الأهم ضد لبنان واللبنانيين.
إنّ كلّ عملية تشاركية مع “حزب الله”، تحت عنوان، إنقاذ لبنان، هي خدعة لها تداعيات كارثية على البلاد، ذلك أنّ هذا الحزب معني بالمحافظة على مكوّنات قوته وسطوته، وليس معنياً، بأيّ شكل من الأشكال، بالدولة والشعب.
وليس من قبيل الصدفة أنّ “حزب الله”، وأمام كلّ تحدّ ذي طبيعة قضائية، يأخذ الإشتباك الشارعي والسياسي والطائفي حتى مداه الأقصى.
ليس في ذلك أيّ صدفة، لأنّ هناك تناقضاَ كبيراً جداً بين “منطق العنف” و”منطق القانون”، فإذا ساد “منطق القانون” ضعف، تلقائياً “منطق العنف”، وإذا ضعف “منطق العنف” خسر “حزب الله” الأداة التي بواسطتها يتحكّم بالبلاد والعباد.
وموهوم هو كلّ من يمكن أن يتخيّل أنّ دولة، بالتكوين اللبناني، يمكن إنقاذها ممّا تعاني منه، إذا بقي “منطق العنف” هو السائد، ذلك أنّ هذا “المنطق” يولّد نفسه عند أطراف أخرى، الأمر الذي لم يكتشفه اللبنانيون في الطيّونة أمس فحسب، بل سبق أن اطّلعوا على بعض ملامحه، أيضاً في خلدة، بانتفاضة “العرب ” ضد “حزب الله”، وفي “شويّا” بانتفاضة الأهالي ضدّ استعمال بلدتهم لتمويه إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، وفي غريفة ضد مازوت “حزب الله” الإيراني.
في الواقع، إنّ اللبنانيين هم ضحايا خطأ منهجي محلي ودولي، فحزب الله” ليس حزباً طبيعياً يمكن شبك الأيادي معه لإنقاذ لبنان، بل هو تنظيم مسلّح لا يمكن أن يؤمّن استمراريته إلّا على ركام الدولة وأشلاء الشعب وإنهاء…الشركاء.