الحزب الذي قاد مواجهة الانتفاضة والقضاء… هل يذهب إلى حرب أهلية؟
بقلم: طوني فرنسيس
النشرة الدولية –
كان المخزن الذي انفجر في مرفأ بيروت مقراً جامعاً للفريق الحاكم في لبنان. فيه تمت الترجمة العملية لمقولة الجيش والشعب والمقاومة التي صاغها “حزب الله” لتفسير سيطرته على السلطة بعد انسحاب إسرائيل من لبنان، وفيه سعى أفرقاء الحكم الدائرون في فلك الحزب المذكور إلى مشاركة تشبه مشاركتهم الذيلية العامة في مؤسسات الدولة.
تحول المخزن على مدى سنوات استضافته لأطنان النيترات المتفجرة إلى سر من أسرار السلطة المهيمنة.
خزنت البضاعة بداخله، ومنه سحبت تحت أنظار، وبمشاركة، الشركاء في حكومات الثالوث “الذهبي” الموزعين على قوى سياسية وأجهزة إدارية وأمنية تشكل مجتمعةً حكومة المرفأ التوافقية في وحدتها الوطنية، وأخيراً، ولدى حصول الانفجار الكبير سقط الشعب من معادلة الثالوث، فطار من شدة الانفجار، وتخلخلت علاقات الركنين المتبقيين: الجيش والمقاومة، لكن مبتدعي هذه الصيغة استمروا في تضامنهم، فالتحقيق في الانفجار يقترب من كشف تواطئهم في تحمل المسؤولية، وهم لذلك يثيرون المعارك في وجهه. وكما قاد “حزب الله” ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”، ها هو يقود الأطراف في رباعية الجيش والشعب والمقاومة للقضاء على التحقيق!
كرس “حزب الله” نفسه مقاومةً في وجه الناس منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية قبل عامين، احتجاجاً على سلطة الفساد والانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي. وعندما أرسل عناصره لقمع المحتجين في وسط بيروت فعل ذلك باسمه وباسم منظومة السلطة التي تضمه إلى جانب شركاء من طوائف أخرى. كان المنتفضون الذين ينتمون إلى مختلف فئات الشعب يطالبون برحيل حكامهم، واختصروا مطلبهم بشعار “كلن يعني كلن” (كلهم)، فانبرت ميليشيات “حزب الله” ومثيلاتها في أحزاب السلطة إلى قمعهم، وتحولت هتافات الحزب المذهبية، الجديدة كلياً على الشارع اللبناني، إلى وقود مجاني لتعبئة جمهوره المذهبي الخاص، يستفيد منها خصوم – حلفاء لشد مشاعر جمهورهم الخاص من دون المس بالمهمة التاريخية للحزب القائد في قمع انتفاضة كان يمكن أن تمهد للتحول إلى ثورة شعبية شاملة ضد سلطة الأمر الواقع.
قاد “حزب الله” منظومة الحكم في لبنان في تصديها لأخطر احتجاج وطني واجهته منذ سنوات عديدة، وتحدث بلسان أطرافها جميعاً عندما حاول شيطنة الانتفاضة واتهامها بالعمل لمصلحة الخارج “الصهيوني الأميركي” بالتعاون مع السفارات الغربية. ولم يوقف الحزب المذكور حملته على المحتجين، مستنداً إلى لقاء مصلحي عميق مع القوى الشريكة في الحكم، إن من موقع التابع، أو من موقع الخصم المؤقت، وسمح له ذلك بأن يعزز مواقعه لاحقاً في السلطة عبر اشتراطاته لتشكيل حكومة تعقب استقالة حكومة سعد الحريري، ثم الإتيان بحكومة حسان دياب التي سميت يومها حكومة “حزب الله”.
وضع انفجار المرفأ في بيروت منظومة الحكم مرةً أخرى في دائرة الاتهام. فالمواد المتفجرة أدخلت إلى الميناء قبل سبع سنوات في عملية تلاعب شاركت فيها مجموعة كاملة من أصحاب القرار والتجار والمرتشين، وجرى تخزينها في مستودع تدور شبهات بأنه يخص الميليشيات التي تهيمن على عمليات تهريب وتخزين أسلحة وذخائر، إضافة إلى إمساكها بعمليات إدخال وإخراج البضائع مقابل إتاوات يتحدث عنها كثيرون. كان المرفأ طوال سنوات صورة مصغرة للبلد، تتوزعه مراكز القوى نفسها التي تتوزع مقدرات الدولة، وعندما انفجر موقعاً دماراً شاملاً في العاصمة، كان لا بد لأي تحقيق جدي في الأسباب والمسؤوليات أن يطاول المنظومة نفسها التي من موقعها في السلطة المركزية تمسك بتفاصيل حياة الميناء وحركته.
ومرةً أخرى، نجد “حزب الله” يتزعم باسم المنظومة حملة التصدي للتحقيق القضائي. لقد قاد على امتداد شهور معركة إجهاض الانتفاضة لمصلحة تلك المنظومة، وهو الآن يخوض معركتها لمنع التحقيق وتحديد المسؤوليات. وفي وقت مبكر، هاجم حسن نصرالله، زعيم الحزب، قاضي التحقيق الأول، فادي صوان. أخبره أن التحقيق انتهى، وكان لم يكد يبدأ، وطلب إليه إعلان النتيجة، وبعد قليل صرف المحقق ليتم تعيين القاضي طارق البيطار الذي سيتعرض لحملة مماثلة يقودها نصرالله مدعوماً بشكل مباشر أو غير مباشر من قوى سياسية وطائفية أساسية شريكة في السلطتين التنفيذية والتشريعية.
لم يقتصر التناغم مع موقف “حزب الله” على شريكه المذهبي في حركة “أمل” الشيعية، بل كان إلى جانبه في المعركة التي يخوضها سياسيون سُنّة ومسيحيون يخشون أن يطاولهم التحقيق، الأمر الذي سمح بتصعيد المعركة ضد القضاء إلى حد توجيه التهديد المباشر للقاضي البيطار، ثم تنظيم التظاهرة المذهبية ضده التي ستنتهي إلى صدام مسلح في الشارع وسقوط ضحايا بين قتلى وجرحى.
وصل الدفاع عن المنظومة، في وجه الانتفاضة، ثم في وجه التحقيق، إلى المفترق الأكثر خطورةً. فما جرى في بيروت من صدام مسلح في يوم المطالبة بطرد المحقق العدلي اتخذ بعداً طائفياً صريحاً يهدد بإعادة “حزب الله” إلى مربعه المذهبي وفقدانه غطاءً مسيحياً أساسياً، وابتعاد أركان في مذاهب أخرى التقته في مواجهة الانتفاضة والقضاء. وهذا ما لا يناسب الحزب في المرحلة الراهنة، كما لا يريده راعيه الإيراني. فهو وراعيه يعملان على تكريس الإمساك بمفاصل البلد كلها، وليس العودة إلى زاوية المذهب والاكتفاء بها. ولا يستقيم ذلك مع استعادة صدامات الحرب الأهلية التي نعتت بالمسيحية الإسلامية، إلا إذا كان الهدف هو العودة إلى مثل هذه الحرب عبر تكريس انقسام عمودي بين اللبنانيين والقضاء نهائياً على الدستور واتفاق الطائف.
حتى الآن، لا تسير الأمور في هذا الاتجاه، ويحمل تركيز “الشيعية السياسية” على “القوات اللبنانية” وتحميلها مسؤولية إراقة الدماء في خميس “الطيونة” على الاعتقاد أن لعبة التوتير الداخلي ستبقى محكومة بحسابات توسيع النفوذ السياسي لـ”حزب الله” لتمكينه في الشهور المقبلة من تحقيق مزيد في الانتخابات النيابية والرئاسية. وهو ما سيتطلب منه تنازلات شكلية قد نشهد نماذج عنها في تسهيل معقد ومتوتر لعودة الحكومة إلى اجتماعاتها ومزيد من الإصرار على تحقيق “مناسب” في صدام الطيونة… وتفجير المرفأ. ولن يعني ذلك في أي حال السماح باستعادة لبنان حياته الطبيعية وتقاليده وأعرافه السياسية، فحتى إشعار آخر بات كل هذا جزءاً من ذكريات مضت.