هل قربت نهاية أميركا والغرب؟
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

يحزنني من يعتقد أن نهاية «الإمبراطورية الأميركية ـــ الغربية» قد اقتربت، ويضحكني من يعتقد أن «حضارتنا» ستحل محلها!

لا شك أن حضارة العصر الحديث تختلف عن الحضارات السابقة، فظلال هذه تشمل العالم أجمع في صورة أدوية وعلاج وصناعات واختراعات واكتشافات وريادة الفضاء، ومجموعة قيم ومُثل غير مسبوقة في التاريخ البشري. فهي وحدها التي وضعت حداً لجريمة عبودية الإنسان التي استمرت آلاف السنين، ودور المدفع البريطاني في ذلك لا ينسى. وهي الحضارة التي صاغت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولا ينفع أو يجدي أي إنكار أو تجاهل لهذه الحقائق. مع أهمية التفريق بين بعض حكومات الحضارة الغربية وبين شعوبها، فقد قام بعضها باقتراف جرائم لا يمكن نسيان بشاعتها!

يرى «صموئيل هنتنغتون» أن الحضارة العالمية غربية بامتياز، ليس من منطق عمق هيمنتها، بل وأيضاً لقدرتها على خلق الإنسان الحر. ومن يدَّعونَ أنها نتاج حضارات غابرة قد يكون صحيحاً في جزء منه، إلا أن الحضارة الحالية تشمل عشرات اللغات والدول، وهي ظاهرة لم يسبق أن عرفها العالم من قبل. كما تمتاز بقدرتها ورغبتها في البذل من منطلق مسؤوليتها الإنسانية. فعندما غزت موجات «لاجئينا» المليونية شواطئ الغرب، في ظاهرة إنسانية مقلقة، بحثاً عن الطعام والأمان، لم تجده إلا لدى الغرب، الجهة الوحيد التي كانت ولا تزال قادرةً على القيام بذلك الفعل.

ما يتناساه البعض أن علوم وأبجديات الحضارات السابقة كانت برسم الجميع لقرون، ولكن لم تستفد منها أية دولة بشكل كافٍ وكبيرٍ، إلى أن جاء الغرب، ممثلاً في مجال الحرف بـ«غوتنبرغ، ومن تبعه من مكتشفين غربيين، وأحدثوا نقلة علمية هائلة بجعله بخدمة ومتناول الجميع، وهو أمر لم يحدث منذ أن عرف الإنسان الأبجدية قبل خمسة آلاف عام».

كما كانت آراء ومنجزات وأفكار ابن رشد وابن سينا والفارابي وعشرات الفلاسفة والعلماء والمفكرين الآخرين بين أيدي الجميع، ولكن لا شيء من أعمالهم لفت انتباه أحد، وفوق ذلك تم نبذهم وتكفير بعضهم وتعذيب وقتل البعض الآخر لتأتي الحضارة الغربية وتستفيد من منجزاتهم، فكيف نأتي بعدها ونعطي الفضل لغير الغرب، الذي رأى في هؤلاء ما لم يرَه غيره فيهم؟!

كل هذا لم يحدث جزافاً، فثمة خصائص كامنة في التكوين الأصلي للغرب، هي التي جعلته يُبْصِر إذ عَمِي الآخرون، ويُبْدِع إذ تَبلّد الآخرون، وينجح إذ فشلوا. وهذه الخصائص ليست مستوردة بل هي أصيلة سابقة، وبقوة دفعها الإيجابي، ومنها تمكّن الغربُ من أن يكون حضارياً على هذا النحو الاستثنائي في التاريخ. وأهم هذه الخصائص، كما حدّدها هنتنغتون، وبينها الزميل السعودي محمد المحمود في مقال رائع بعنوان «الاستثناء الحضاري الغربي»، سبتمبر 2021، ما يلي:

1ـــ الميراث الكلاسيكي الذي ورثه الغربُ عن الفلسفة اليونانية والعقلانية، والقانون الروماني، واللاتينية والمسيحية.

2ـــ الثقافة الكاثوليكية والبروتستانتية، وهي ــ تاريخياً ــ أكثر خاصية متفردة ومهمة في الحضارة الغربية، ميزتهم عن بقية الشعوب.

3ـــ اللغات الأوروبية، كعامل مميز لشعب عن شعب آخر، وتعددها، بينما الحضارات الأخرى كانت ذات لغة واحدة.

4ـــ الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الدنيوية.. فصورة الإله ودوره تختلف من ديانة لأخرى.

5ـــ سيادة القانون، الموروثة من الرومان، وفكرة إخضاع القوة الإنسانية لكابح خارجي بقيت سائدة في الثقافة الغربية، ووضعت أساس الدستور وحماية حقوق الإنسان.

6ـــ تاريخيا المجتمع الغربي درج على أن يكون، إلى درجة كبيرة، مجتمعاً تعددياً، و«التعددية التجمعية أكملتها التعددية الطبقية»، وهذا منع الشمولية، وشجع على انبثاق واستمرار جماعات مستقلة ومتنوعة ليست مبنية على أساس علاقة الدم والزواج.

7ـــ الكيانات التمثيلية. حيث التعددية الاجتماعية أدّت مبكراً إلى بروز طبقات اجتماعية، مجالس نيابية، مؤسسات لتمثيل الأرستقراطية، رجال الدين، التجار، والجماعات، وهذا أدى لمؤسسات الديموقراطية الحديثة.

8ـــ الفردانية.. العديد من الخصائص السابقة ساهمت في انبثاق إحساس بالفردية وتقاليد الحقوق والحريات الفردية متفردة بين المجتمعات المتحضرة، وهي من العلامات المميزة للغرب مقارنة بغيرها.

هذه أهم الخصائص التي أسهمت في تشكُّل الغرب الحديث، وهي لم تتوافر بكاملها في أي حضارة سابقة، كما أن امتزاجها وتفاعلها هو الذي أعطى الغرب الخاصية المتفردة التي ميزته عن الآخرين.

ويرى المحمود أن تراث العرب والمسلمين يفتقر إلى كثير من هذه الخصائص؛ فكيف بها جميعاً، مما يعني أن «الأيديولوجيا الأصولية»، سواء الدينية أو القومية، لن تستطع أن تجتاز بشعوبها القنطرة الفاصلة ما بين «عالم التخلف» و«عالم التقدم»؛ إذ ليس في الأصالة والتراث إلخ من المقولات الجوفاء ما يمكن أن يمدَّ الإنسان العربي والمسلم بعناصر التحضر الإيجابي، أي بما يجعله قادراً على الانتماء إلى الحضارة العالمية، حضارة الإنسان.

ولم يكن غريباً بالتالي أن غالبية دولنا أخذت موقفاً رافضاً من الحضارة الغربية، وهذا جرَّ الكوارث علينا، وحتى قبولنا المشروط بها لم يكن أقل سوءاً. وقد اختارت اليابان قديماً الموقف المستريب والرافض نفسه منذ اتصالها الأول بالغرب (1542ـــ1868م). وعندما أيقنت أن العلمَ مصدر قوة، وأن الغرب هو مصدر هذا العلم، انتهجت «القبول المشروط»، أي قبول التقنية، ورفض القيم المُؤسِّسية؛ فوقعت الكارثة التي تصاعدت في سلسلة حروب، حتى انفجرت بأبشع صورها ذرياً عام 1945م على رؤوس اليابانيين، حينئذٍ فقط فَهم اليابانيون الدرس جيداً، فتقبلوا قيم الحضارة الغربية؛ وتحوّلوا إلى «خَلْق آخَر» مُخْتَلِفٍ عن أسلافهم الغابرين.

الخلاصة: لقد تعرض العالم أجمع لوباء كاد أن يفتك بنصف الجنس البشري! وحده الغرب، وأميركا بالذات، كان لهما الفضل الأكبر في إنقاذ أرواح مئات ملايين البشر.. وهذا ما تعنيه حضارة اليوم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button