النفيسة النادرة
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

فاجأني تنوع وحجم الجمع الذي رأيته في المقبرة، في تلك الساعة المبكرة من صباح أول من أمس. رأيت بينهم مواطنين ومقيمين هنوداً ودروزاً وسنة وشيعة وبهرة ومسيحيين كاثوليكيين وأقباطاً وبوذيين وغيرهم.. من نساء ورجال من مختلف الأعمار، وبملابس وطنية ودينية أو عادية ومن مشارب وجنسيات وخلفيات تجاوزت العشر بكثير، حيث تجشم الجميع عناء الحضور في وقت غير عادي لإلقاء النظرة الأخيرة على إنسانة استثنائية بكل المقاييس الإنسانية!

قد لا يعني اسم «نفيسة معز علي» الكثير لمن لم يعرفها، وحتى لبعض من عرفوها، ولكن من تعّرف عليها عن كثب يعلم جيداً أنها ملاك ولكن بأجنحة من حب بدلاً من ريش.

يقول د. حسام عبدالباقي إنها «سيدة غير شكل»، ولها فضل كبير عليه وعلى أسرته، بالرغم من كل ما بينهما من فوارق وثقافة ودين ومجتمع وجنسية وغيرها، فهو لبناني وهي هندية. ويقول إنه التقاها للمرة الأولى في ناد رياضي، وأصبحا شبه صديقين مع الوقت. ويقول إنه تخلف مرة عن الذهاب للنادي لبضعة أيام، بسبب ظروف صعبة كان يمر بها، فاستفقدته وسألت عنه وعرفت منه، بعد إلحاح، أنه يمر بضائقة مالية صعبة جداً، وبحاجة للاقتراض من البنك، وهذا يتطلب توافر من يكفل القرض. عرفت منه المبلغ وأحضرته معها في اليوم التالي، وإزاء إصرارها الغريب قبل منها كريم مبادرتها، ولم يقتنع بإصرارها الغريب الآخر في رفض حتى تسلم وصل أمانة منه.

حل إشكاله المالي، وتغير وضعه للأفضل بكثير، وكل ذلك بفضل سيدة بالكاد يعرفها، ولم يربطه بها أمر غير «الصحبة الرياضية» ومع هذا كانت أفضل من ألف صديق وألف قريب!

لن أسرد هنا ما أعرفه عن جمال روحها، عبر معرفتي بها على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، ولن أسرد ما أخبرني به بعض أقربائها عنها، فهذا يتطلب صفحات عدة. ولكن سأتطرق لما ذكرته دكتورة الأورام السرطانية المميزة سوسرانا ناير، من أن نفيسة التي كانت يوما إحدى مريضاتها، أصبحت مع الوقت جزءاً شبه يومي من عيادتها الخارجية حيث كانت تزورها وتتفقد مرضاها، وخاصة من أصحاب الحاجات، ومن النساء الأجنبيات بالذات، الأكثر حاجة. كما كانت مصدر راحة لهن في أحلك ساعات حياتهن، بما كانت تقدمه لهن من إرشادات ونصائح، كونها ذات خبرة سابقة بذلك المرض الخبيث، وتبعاته على المريض وعلى أسرته، وحاجة النساء منهن لمن يرشدهن للمواءمة بين متطلبات البيت الضرورية، في ظروف مادية صعبة، ومتطلبات العلاج الأكثر أهمية، في فترة تتسم بالكثير من الارتباك والعجز عن التصرف والحاجة الماسة لكلمة طيبة ويد حانية.

تستطرد الدكتورة ناير قائلة إنها كانت تعتمد على استعداد نفيسة الغريب للتطوع والمساعدة في أي ظرف، وعلى ابتسامتها التي لم تكن تفارقها، وثقتها وطيبتها وتواضعها الجم، بالرغم من كل المزايا المادية والعلمية التي كانت تمتلكها، وكيف أن نفيسة كانت تتحلى بإحساس قوي بالمسؤولية المجتمعية.

ويقول استشاري الأورام المعروف سانجي ثوروثل إن نفيسة كانت مريضة غير عادية، فهي من القلة النادرة التي لم تكن تشتكي من مرضها، بل كانت دائماً تقول إنها «أوكي»، وكان يعلم جيداً أنها كانت تعاني، ولكنها لم تسمح يوماً لآلامها أن تؤثر في بيتها أو عملها التطوعي الخير.

لقد رحلت عنا نفيسة معز علي، ولكنها ستبقى حتماً في ذاكرة أهلها ومحبيها وكل أولئك الذين مدت لهم يوماً يد المساعدة لأنهم كانوا بحاجة إليها، وليس ابتغاء لأية منفعة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button