هل تصل الصحف إلى بيع كتّابها بالمزاد
بقلم: كرم نعمة

النشرة الدولية –

واحدة من أكثر القصص الحزينة عن الصحافيين في العالم برمته ما شهدته الأسبوع الماضي صحيفة “تامبا باي تايمز” الأميركية التي يعود تأسيسها إلى عام 1884! ومع أن القصة الحزينة لا تقتصر على هذه الصحيفة التاريخية، إلا أنها مثال مؤلم على الزمن الكئيب الذي يلف الصحافة في العالم قاطبة.

لقد مدت هذه الصحيفة يدها بشكل معلن للتبرعات بطريقة يائسة من أجل الصمود في تغطية إصدارها وجمع 173 ألف دولار أي ما يعادل ميزانية غرفة الأخبار لمدة أسبوع.

وفي حقيقة الأمر هي ليست الصحيفة الأولى التي تلجأ إلى ذلك، لكن طريقتها في جمع التبرعات كانت أكثر من مؤلمة في تعبيرها عن واقع السوق المريضة للصحافة المطبوعة. كما أن علينا أن ننظر لهذه الصحيفة المجهولة بالنسبة إلى القارئ العربي على أهميتها بالنسبة إلى قرائها الأميركيين طبقا لتاريخها الذي يعود إلى 137 عاما.

فتحت الصحيفة الأميركية نافذة على الإنترنت لحث قرائها من الأثرياء وغيرهم على مساعدتها عبر التبرع وفق إعجابهم بما يكتبه المحررون. بالطبع تقوم صحف كبرى بالإعلان عن قبول التبرعات وحث الجمهور على الاشتراك فيها، لكن ليس بنفس التراجيديا الحزينة التي أقدمت عليها صحيفة “تامبا باي تايمز” عندما دعت المتبرعين لكتابة فقرات موجهة إلى الصحافيين مع الأموال التي يدفعونها عن طيب خاطر. وذلك ما يعبر عن المأزق الذي تعيشه الصحف في كل دول العالم.

لم تفتقد تعليقات المتبرعين للكياسة، وإلا لما تبرعوا، لكنها تكشف للعالم والحكومات عما ينتظر المجتمع عندما يفتقد إلى صحافة تربطه بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات. لأن المجتمع من دون صحيفة مركزية قوية سيكون مفتقدا للقيادة وإلى جزء كبير من هويته.

فقد كتب أحد المتبرعين بمئة دولار “شكرا على كل القصص التي نشرت وشكرا على التغطية العادلة للأخبار”.

وكتب متبرع بـ500 دولار أهداها لكاتبة العمود ستيفاني هايز قائلا إنّ طريقة “كتابتك القوية تفتح القلوب والعقول بما تحمله من أفكار نادرة تستحق التقدير”.

فيما كتبت متبرعة بمبلغ 250 دولارا تكريما لمراسلة الفنون والموسيقى ماجي دافي، تشكر عملها الصحافي الجيد.

كانت هذه الطريقة مسلية لمن يمتلكون المال للتبرع به، كما أنها تحرّض قادة العمل الخيري على تكريم الصحافيين الأفراد عبر الحافظ على نموذج أعمال الصحيفة.

لكنها بالنسبة إلى الصحافيين المخلصين لجوهر المهنة أكثر من كئيبة وتعبر عن الحال الذي وصلت إليه الصحافة المطبوعة بعد أن تركتها الحكومات تعيش أزمتها الوجودية. إنها أوضح علامة على الضغط المالي الذي تعيشه المؤسسات الإخبارية وهي تكافح من أجل البقاء من دون أن تتنازل عن جودتها والخضوع لشروط المعلنين والتساهل مع فساد السياسيين والحكومات.

عندما يقارن واقع صحيفة “تامبا باي تايمز” الأميركية التي تضم 120 موظفا، مع أي من الصحف العربية التي تعيش نفس الأزمة الوجودية، فإنها تبدو أكثر من محظوظة، مع أنها قامت بتقليص طبعتها الورقية إلى يومين في الأسبوع. لأنها حصلت على قرض من مؤسسات الدولة بقيمة 8.5 مليون دولار وفق قانون حماية دفع رواتب العاملين، وهو إجراء ساعد الشركات المتضررة من تعطل الأعمال جراء انتشار وباء كورونا.

يعزو مارك كاتشيس رئيس تحرير “تامبا باي تايمز” اللجوء إلى هذه الطريقة في إنقاذ استمرار الصحيفة، إلى أن الإدارة تبحث عن أي وسيلة للمساعدة في تمويل نموذج مستدام لإبقاء الصحيفة على قيد الحياة، فالعمل الخيري لا يفرض شروطه التي تؤثر على محتوى الأخبار وطبيعة صناعة القصص الصحافية، كما تفعل الحكومات والشركات التكنولوجية الكبرى.

وعبر رئيس التحرير عن اعتقاده أن طريقة التبرع هذه لتكريم الصحافيين لا تثير أي التباس بأن المال سيذهب لاستدامة عمل الصحيفة، مشيرا إلى أن أغلب المتبرعين من عائلات وأصدقاء الصحافيين أنفسهم.

ذلك لا يمنع اللبس عن الطريقة الكئيبة التي وصلت لها الصحيفة وهي تقاتل من أجل استمرارها. لكن كاتشيس رفض بشدة الاعتقاد الذي يشير إلى أن الصحيفة وصلت إلى “بيع كتابها بالمزاد”! مؤكدا على أن الطريقة مثلت فرصة للقراء لإظهار دعمهم لمن يعجبون بكتاباتهم، لأنهم يرون أنفسهم في ما يقرأون، وأن الصحافيين جزء مهم في استمرار السياقات السليمة داخل المجتمعات. فالمؤسسات الإخبارية التي تبدو منفصلة عن مجتمعها تعاني بالفعل من مستويات ثقة أقل.

ولا ترى كاثلين بارتزنكولفر، مديرة مركز أخلاقيات الصحافة في جامعة ويسكونسن، أي مشكلة تمس القيم الإعلامية في حملة التبرع، لكنها دعت المؤسسات الإخبارية إلى اغتنام كل فرصة لتثقيف جمهورها بشأن القيمة الأخلاقية في الخيارات التجارية باعتبارها سور حماية.

هذه الصحيفة التي فازت بثلاث عشرة جائزة من جوائز بوليتزر منذ عام 1964، إحدى أهم الجوائز الصحافية المرموقة في الولايات المتحدة، تكشف لنا الوسائل التي يمكن اعتمادها في إنقاذ نموذج صحافي يعول عليه الجمهور، بينما يتم ترك الصحف العربية تعيش أزمتها من قبل الحكومات.

قد يبدو مثال الصحيفة الأميركية التي تصدر من ولاية فلوريدا بعيدا عن عالمنا العربي، لكنه لا يقلل من أهمية الدرس الذي يقدمه لنا للاستفادة منه في إنقاذ ما تبقى من صحافة بقيت مخلصة لجوهرها.

من الواضح أن الحكومات العربية لا تضع استراتيجيات لإنقاذ الصحف من أزمتها من أجل إبقائها تترنح ومن ثم إخضاعها، كما فعلت عبر تاريخها المعاصر. لكنها بتركها الصحف تصارع أزمتها من دون أي دعم ترتكب خطأ فادحا بإنهاء وجود الصحافة الحرة، وتفتح الباب أمام الفساد والأداء المؤسساتي المترهل وخنق الأفكار والمواهب، فالصحافة كقوة تاريخية ليست صوتا أحاديا لأخبار الحكومة وحدها.

فما الذي يجب القيام به لمساعدة هذه الصناعة؟ ما الذي يمكن فعله حيال ذلك؟ هل يجب أن تكون هناك حكومة إنقاذ معنية بالصحافة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button