الأيام الفاصلة القادمة في العراق
بقلم:  إبراهيم الزبيدي

النشرة الدولية –

الهزة التي أحدثتها الانتخابات الأخيرة في المجتمع العراقي كانت وبلا شك ثمرة من ثمرات انتفاضة تشرين، رغم النجاح الخادع الذي توهمت الأحزاب والفصائل الولائية المسلحة ودول خارجية بأنها حققته في محاصرة الانتفاضة وإسكاتها. فقد ظلَّ جمرها متّقدا تحت جلد النظام السياسي القائم إلى أن توفرت أول فرصة للشعب العراقي الملتحم مع المنتفضين، سرا وعلانية، ليظهر عمق نقمته على أحزاب الدين السياسي، وعلى الشيعية منها تحديدا، وشدة إصراره على رفض سلطتها، وصدق عزمه على معاقبتها وإسقاطها، فيريح ويستريح.

ولأن المعارضين العراقيين الذين عادوا من عواصم اللجوء في أبريل 2003، وسلّمهم الأميركي والإيراني الحكم بقوة السلاح، كانوا عميان بصر وبصيرة، فظنوا بأنهم سيضعون الوطن في جيوبهم وجيوب أولادهم وأحزابهم، غير عابئين بمن يموت أو يجوع من أهله، إلى أبد الآبدين دون أن يخطر في بال أحدهم أن هذا الشعب العراقي المعروف بأنه شعب الثورات والانقلابات لم يقبل ضيماً من قبل، ولم يصبر على ظلم، ولا على احتلال، لا بد أن يبطش بهم ذات يوم، وإن طال به الصبر والانتظار.

وكان الوطن العراقي وأهله، بمختلف طوائفهم وقومياتهم وأديانهم، في غنىً عن ثماني عشرة سنة من المواجهات والصدامات الدامية الخفية والعلنية، وعن الدماء التي سالت منهم، وعن الأموال التي سُرقت أو أهدرت، وعن المرارات التي تجمعت في نفوس الذين ظُلموا أو هُجروا أو استبيحت منازلهم، أو أهينت كراماتهم، أو قُطعت أرزاقهم في ظل حكومات حزب الدعوة وأشقائه الآخرين في البيت الشيعي المملوك بالكامل لإيران.

وفي الجردة النهائية لنتائج الانتخابات يمكن حصر أهم النجاحات التي تحققت فيها للشعب العراقي وشباب الانتفاضة، بما يلي:

أولاً، لقد أثبتت أن الصراع الدامي الذي استمر ثماني عشرة سنة لم يكن في حقيقته بين شيعة وسنة، ولا بين عرب وكرد، مثلما كانوا يزعمون ويروجون، بل كان بين نظامٍ أقيم على الكذب والسرقة والتزوير والتبعية للأجنبي، وبين شعب كامل، بكل طوائفه وقومياته وأديانه، من البصرة وحتى زاخو، اُخذ على حين غرة، وسُرق وأهين، ومنعته جيوش الاحتلالين الأميركي والإيراني من أن يأخذ حقه من غاصبيه.

وثانياً، أظهرت أن الخلاف لم يكن بين حاكم ومحكوم على مسائل خلافية عادية، كما يحدث في بلاد العالم الطبيعية الاعتيادية الأخرى، بل كان بين أحزاب وتنظيمات وشخصيات تدعي الالتزام بالديمقراطية والعدالة وسلطة القانون، وبين شعب كامل موقن بأنها أحزاب تحتقر الديمقراطية والعدالة، وتكره سلطة القانون، ومحتّمٌ عليه أن يناضل من أجل تعديل المسيرة، وإقامة الدولة الديمقراطية العادلة العاقلة التي تساوي بين أبنائها في الحقوق والواجبات، ويكون فيها الشعب وحدَه صاحبَ القرار، دون وصاية محلية أو أجنبية، من أي نوع، وبأية ذريعة.

ثالثا، أظهرت أن حمَلةَ السلاح الخارج على الدولة والقانون، أصحابَ السجون السرية والاختلاسات، ومحتلي قصور الدولة ووزاراتها ومؤسساتها وسفاراتها، قد تمادوا إلى أبعد الحدود في التعدي على الشعب والجيش والحكومة والبرلمان، وبالغوا في الاختلاس، وفي المتاجرة بالمخدرات، وفي قتل المتظاهرين، وتهريب أموال الدولة إلى دول الجوار، حتى لم يتركوا أمام الشعب الذي طفح كيله منهم ومن تصرفاتهم خيارا سوى بغضهم، وترقب الفرصة المواتية للانقضاض عليهم، والانتصار.

وقد تحقق بعض الحلم. فقد نجح شباب تشرين بصمودهم وشجاعتهم وتضحياتهم في قلب الطاولة على أصحابها.

فبعد أن كان الولائيون هم الذين يمارسون تزوير الانتخابات، ويهللون ويطبلون لنزاهتها وعدالتها، ويعاقبون المرشحين الذين يطعنون بصحة نتائجها، أصبحوا اليوم هم الذين يتظاهرون وهم مسلحون، رافضين نتائج الانتخابات، ومطالبين بإعادتها، زاعمين بأنها مزورة، وبأن الولايات المتحدة والسعودية والإمارات تآمرت عليهم وتسببت لهم بهذه النكبة التي لا يستحقونها.

وها هم يتظاهرون، يهددون أصحاب القوائم الفائزة بالانتقام والحكومة والقضاء بحرق البلاد والعباد إن لم يتمَّ إلغاء الانتخابات، أو تعديل النتائج بما يعيد لهم الغلبة والقوة والجبروت.

وهنا نتساءل، هل هم قادرون فعلاً على خوض حرب شوارع مع الجيش والحكومة والصدريين، ومعهم الملايين من المواطنين الذين سينفُرون دون شك بعفوية وتلقائية لقتالهم من بيت إلى بيت، بغض النظر عن رأيهم الحقيقي في الحكومة وفي الصدريين؟

سؤال آخر، هل من مصلحة النظام الإيراني، أو هل في مقدوره، وهو في ظروفه الداخلية والإقليمية والدولية الخانقة، أن يسمح لأتباعه بخوض حرب كسر عظم مصيرية قد تقضي على ما تبقّى من سلاح ونفوذ، وقد تكون سبب الخروج الإيراني النهائي من العراق؟ هذا هو السؤال.

شيء آخر، في السابق كانت الحكومة وجيشها وقواتُ أمنها ومخابراتُها والقضاءُ والبرلمان متواطئة ومنحازة إلى سلاح الميليشيات، تُعين على قتل المتظاهرين، وتتستر على الفاعلين، لأن هادي العامري وقيس الخزعلي وفالح الفياض وأبوعلي العسكري وأبوفدك هم الأقوى والأكثر سطوة وقلة أدب وضمير.

أما اليوم فلن تكون الحكومة وجيشها وأمنها ومخابراتها والقضاء والبرلمان إلا مع شعبٍ كامل صبر على الظلم والعمالة للأجنبي ثماني عشرة سنة، ولا يمكن خيانته والغدر به هذه المرة.

ومن المؤكد أن حرص النظام الإيراني على إبقاء العراق رئته التنفسية الضرورية الأخيرة التي لا يحتمل تبعات خسارتها سيجعله مضطرا لمنع وكلائه الخاسرين من ارتكاب حماقات مسلحة مع الملايين من الخصوم الأشداء المتربصين، وسيأمرهم بقبول الهزيمة والمحافظة على ما تبقى لهم من وجود. ببساطة، إن كثيرا من الكلام سوف يقال بعد أن تفصح الأيام القليلة القادمة عما سيكون. ونحن جميعنا في الانتظار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button