عالم يوفال الخيالي
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

يعتقد الباحث الإسرائيلي يوفال هيراري Yuval Harary، صاحب أكثر الكتب مبيعاً في الأنثربولوجي، أو علوم الإنسان، أن الجنس البشري الحالي سيطر على الأرض في فترة تعود إلى ما قبل 80 ألفاً إلى 200 ألف سنة، بعد أن نجح في القضاء التام على الأجناس البشرية الأخرى، محققاً السيادة الكاملة على الأرض لعرقه.

يتساءل هيراري: كيف تحقق لهذا الإنسان أن يحكم الأرض منفرداً، بعد آلاف السنين من عدم الاهتمام بغير حاجاته الأساسية؟

فلو تواجد اليوم قرد شمبانزي وإنسان على جزيرة نائية، ففرص الشمبانزي في البقاء حياً أكبر من الإنسان، وهذا صحيح. فالفرق بيننا وبينها لا يحسب على المستوى الفردي، بل بالعمل الجماعي، فالبشر حكموا وعمروا الأرض لأنهم الأكثر قدرة من غيرهم على التعاون بمرونة، وبأعداد كبيرة، وبشكل منظم. فبالرغم من وجود حيوانات وحشرات تعمل معاً، فإنها لا تمتلك المرونة، بل تعمل بأسلوب جامد لا يتغير، وبأعداد صغيرة نسبياً. فالقادة يحركون الجيوش بأعداد هائلة لا تستطيع قطعان الماشية مثلاً مجاراته. كما أن جميع الأعمال الضخمة في التاريخ، كبناء الأهرامات والوصول إلى القمر، هي نتيجة تعاون أعداد هائلة من البشر. فلكي يتمكن القارئ من قراءة هذا المقال يتطلب الأمر كتابته على جهاز كمبيوتر شارك الآلاف في تصميمه وصنعه وتزويده بالبرامج وشحنه ليصل ليدي، ولأترجم من خلاله أفكاري وأحولها إلى نص وأرسله لجهة ما في الصحيفة لمراجعته وصفه وطباعته ونشره، وكل هذا الجيش لا يعرف القارئ عنه شيئاً، بل يأخذ الأمر كمسلمات.

ومثل ما قام الإنسان بأعمال رائعة جماعياً، قام أيضاً بشن حروب واقتراف مذابح من خلال «تعاون» أعداد كبيرة منهم، وهذه أمور لا تعرفها الحيوانات، التي لا مسالخ لديها.

ولكن ما الذي يجعلنا نعمل بشكل جماعي منظم بخلاف غيرنا؟ الجواب يكمن في قدرتنا على «الخيال». فالبشر بإمكانهم اختلاق قصص خيالية، وإقناع الآخرين بها، وهذا لا يحدث في عالم الحيوانات التي تتعامل مع الواقع فقط. وهذا الخيال يدفعنا إلى التعاون مع بعضنا، فمن الاستحالة أن تطلب من شمبانزي أن يعطيك الموزة التي بيده مقابل أن تعده بالجنة بعد موته، ولكن البشر لديهم الاستعداد لذلك، وبالتالي نحن نحكم العالم وهم لا يزالون في الغابات أو حدائق الحيوان.

هذا التعاون على نطاق واسع ليس مقتصراً على الحروب الدينية بل شمل الكثير من القوانين كتلك المبنية على حقوق الإنسان. فلو شققنا الجسم البشري، لوجدنا قلباً وكليتين ورئتين، ولن نجد «حقوقاً» أو «ضميراً»، فهذه أمور استنبطها خيالنا خلال القرون القليلة الماضية، وهي فكرة جيدة ولكنها محض خيال. والأمر ذاته ينطبق على المواطنة والدولة والانتماء، فجميعها ليست أموراً واقعية، بل هي من خلق خيالنا، وأصبحنا مع الوقت ملتصقين بها، كالحدود الجغرافية، التي نموت من أجل الدفاع عنها.

كما نجد الأمر ذاته في الاقتصاد والشركات، فهي مجرد خيال قانوني، وكل الهدف منها هو جني المال، الذي هو أيضاً خيال مقبول من البشر ومن صنعهم. فالمال لا يؤكل ولا يمكن استخدامه في أي غرض، ومع هذا نجح السياسيون في إقناعنا بأن ورقة المئة دولار يمكن أن نشتري بها كذا وكذا، وأقنعوا صاحب المحل بقبولها، وبالتالي أصبحت عملية «خلق المال» أكثر قصص الخيال نجاحاً، فهي القصة الخيالية الوحيدة التي يؤمن بها كل البشر.

وبالتالي، يتحكم البشر في العالم، لأنهم يعيشون في عالم مزدوج، خيالي وحقيقي. أما الحيوانات، فعالمها واقعي فقط.

كما أن بقاء البشر يعتمد أيضاً على مؤسسات خيالية، كالأمم المتحدة وغيرها!

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى