العدالة اللبنانية في مهب… “التكليف الشرعي”
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
العدالة في لبنان مثلها مثل السراب. تتراءى للمواطن التائه في صحراء تغمرها كثبان المظالم. يظن أنّها حقيقة. يعدو في اتجاهها فلا يجد سوى مزيد من الظلم والقهر والإستقواء والنار والموت والبؤس.
العدالة مفهوم قِيَمي سامٍ يستحيل أن يتجسّد خارج نظام يحترم مبادئ الديموقراطية، حيث الدولة التي تحتكر العنف والقضاء، وتلتزم بالدستور وروحيته، وتخضع للمواثيق الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان، على اختلافها.
هذه الدولة لم يعد لها وجود في لبنان. تقزّمت منذ عقود طويلة وتناثرت، إرباً إرباً، قبل سنوات، وتحديداً في ذاك اليوم الذي تمكّنت فيه “الدويلة” من أن تفرض على الجمهورية رئيساً، محوّلة سائر القوى السياسية إمّا الى لاهثة وراء المناصب والمنافع والحصص أو إلى أصوات صارخة في…البريّة.
إنّ طلب العدالة من دولة منهارة أشبه ما يكون بالتفتيش عن العسل في وكر دبابير. الشبه الهيكلي أو الشكلي لا يؤدي الى نتائج متطابقة أو مماثلة.
كيف يمكن لعاقل أن يتطلّع إلى عدالة من دولة منعدمة الوجود، مثلها مثل السراب؟ يتراءى للبنانيين أنّ هناك رؤساء للجمهورية ولمجلس النواب وللحكومة، وأنّ هناك وزراء ونواباً، ولكن، إذا ما سنحت لهم الفرصة أن يقتربوا من هؤلاء، يتلمّسون أنّهم، في مناصبهم، ليسوا سوى شخوص مسروقة من متاحف الشمع. يتوهّم اللبنانيون أنّ هذه الشخوص السياسية تتكلّم، ولكن عندما يطرحون عليها أسئلة صعبة عن المشاكل الحقيقية، يكتشفون أنّها تنطق، ك”روبوت”، بعبارات مسبقة التسجيل.
ولأنّ هذا الكيان السياسي عاجز عن استرداد روحه المخطوفة ووظائفه المسلوبة، فإنّ الرهان عليه لا يستقيم لا لإقامة العدل ولا لإحقاق الحق.
يرد البعض بأنّ السلطة القضائية تجسّد العدالة وليس السلطات السياسية. هذا صحيح نظرياً، ولكن، عملياً، القضاء هو ركن من أركان البنيان الديموقراطي، فمتى تصدّعت الأركان الأخرى تصدّع هو، ولو صبر وقاوم وصمد.
البيطار وعقيقي
لتكن المقارنة بين إجراءات المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار وإجراءات مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة فادي عقيقي، بما يختص التحقيقات الأوّلية في أحداث الطيّونة.
البيطار الذي يواجه تهديدات ميليشياوية وغضباً سياسياً، وجد نفسه من دون “ضابطة عدلية”، فالقرارات التي يتّخذها ترفض الأجهزة الأمنية على اختلافها تنفيذها. لقد أصبح صوتاً بلا صدى، وجسداً بلا أطراف. قراراته الإجرائية التي تقضي باستدعاء هذا وتوقيف ذاك، أضحت مجرد “وجهة نظر”.
في القانون، يتمتّع المحقق العدلي بصلاحيات إستثنائية، تجعله سيّداً مطلقاً على ملفه حتى يصدر قراره الإتّهامي الذي ينتقل، فوراً، الى “المحكمة الإستثنائية” المسمّاة “المجلس العدلي”.
ولكن، في الممارسة، ولأنّ “حزب الله” الذي لا وجود له في السجلّات الإدارية، غاضب من إجراءات المحقق العدلي، يتم تجريده من “الضابطة العدلية” التي من دونها لا يملك القضاء أيّ قدرة تنفيذية.
وهذا يعني أنّ البيطار، مهما كانت إرادته صلبة وشجاعته مشهودة وصلاحياته محفوظة، سوف يقف، بالمحصلة، عاجزاً، وهو مهدّد، عاجلاً أو آجلاً، بخسارة معركته.
في المقابل، وفي ملف أحداث الطيّونة، وما إن سطّر مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة فادي عقيقي، وهو مجرّد فريق في الملف، مذكّرة للإستماع الى أقوال رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع، حتى توجّهت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني الى مقرّه في معراب، لتبليغه لصقاً دعوة تقضي بحضوره أمامها في وقت وساعة محدّدين.
هذا الفارق في تعامل مديرية المخابرات في الجيش اللبناني بين إجراءات القاضي البيطار، وهو محقق عدلي تنطبق عليه مواصفات استقلالية السلطة القضائية، وإجراءات مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي، وهو لا تنطبق عليه مواصفات الإستقلالية بسبب التبعية القانونية للسلطة السياسية، يعود (هذا الفارق) إلى أنّ “حزب الله” أصدر ضدّ البيطار “تكليفاً شرعياً” وعاد وأصدر مثله ضد رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع المستهدف بمذكرة عقيقي.
اللافت للإنتباه في هذا الأمر، أنّ إجراء عقيقي-مديرية المخابرات في حقّ جعجع جاء بعد إعلان عقيقي ادّعاءه على المشتبه بهم، في ضوء ختم مديرية المخابرات تحقيقاتها.
ولو كانت هناك، فعلاً أسباب ملموسة تستدعي دعوة جعجع لكان يفترض ترك الأمر الى قاضي التحقيق العسكري فادي صوّان، ولكن بما أنّ صوّان أثار، قبل البيطار، غضب “حزب الله” في ملف انفجار مرفأ بيروت، فإنّ الخشية من أن يرفض أن يكون “صندوق بريد” حتّمت اللجوء الى تدبير مستغرب قانونياً ولكنّه مفهوم سياسياً.
إنّ “حزب الله” الذي يشكّل وجوده العسكري والأمني في البلاد، وحده، دليلاً على عجز لبنان عن خدمة العدالة، يتحكّم، بالشاردة والواردة، وهو يحدّد المحلّل وينهي عن المحرّم، وهو يعطي السلطات والناس علامات في الإستقامة والوطنية و…الحق بالحياة.
هذا الحزب، وكلّما حاولت العدالة أن تخدم لبنان، وقف لها بالمرصاد، مخيّراً الجميع بين القضاء من جهة والحرب الأهلية من جهة أخرى. سبق أن فعل هذا، قبل صدور القرار الإتهامي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري المتورّط فيها. هو اليوم يستعيد النغمة ذاتها، في قضية انفجار مرفأ بيروت التي لا يبدو مطلقاً أنّه بريء منها، في ظلّ مفارقة لافتة جداً بحيث جاء دويّ انفجار مرفأ بيروت الذي خطف الاهتمام المحلّي والعالمي قبل أيّام قليلة، من الموعد الأوّل الذي حدّدته غرفة الدرجة الأولى للنطق بالحكم على متّهمين ينتسبون الى “حزب الله” يتقدّمهم سليم عيّاش، وكان، كما ظهر من الإستعدادات، هو محور الاهتمام المحليّ والدولي.
في الغاب تسود شريعة الأقوى. في لبنان أيضاً!