فيلم رسالة إلى لارا” يستعيد الكوميديا الإلهية ليسرد المأساة الحية للبنان

النشرة الدولية –

ميموزا العراوي –

تشهد مدينة بيروت منذ العشرين من أكتوبر الجاري وحتى الحادي والعشرين من ديسمبر المقبل عرضا لفيلم بلغت مدته عشرين دقيقة بعنوان “الجحيم.. رسالة إلى لارا” استطاع من خلاله المخرج اللبناني نقولا خوري أن يصهر فيه عالمين، عالم التشكيل وعالم السينما، لينتج عملا فنيا تسرد عبره اللوحات الفنية الجحيم اللبناني المعاصر، بل تاريخ لبنان المعاصر الذي عجزت الحكومات المتلاحقة أن تخطّ فصوله في كتاب تأريخي واحد لكثرة ما عجّ بالخيانات والجرائم التي مارسها أو سهّلها أبناء الوطن الواحد مُداورة أو بالتزامن.

تقدّم صالة “أليس مغبغب بيروت/ بلجيكا” فيلما قصيرا بعنوان “الجحيم.. رسالة إلى لارا” ويستمر عرضه حتى الحادي والعشرين من ديسمبر المقبل.

الإخراج لنقولا خوري وكتابة النص وقراءته المُلازمة لتتابع اللقطات في الفيلم لأليس مغبغب، صاحبة غاليري فني عريق في بيروت، ومُؤسسة ومديرة مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية.

في حديث معها حول حيثيات الفيلم وبداية الاستفهام عن عنوانه أجابت قائلة “هذا الفيلم/ المعرض يحمل عنوانا ليس اعتباطيا ويحمل رمزية عامة تنقر على أوتار جميع البلدان في زمننا الحالي بطريقة أو بأخرى. ولكن لهذا الفيلم/ المعرض دلالة لبنانية صريحة. ويمكن القول إن هذه الدلالة تحت تأثير عنصرين اثنين هما: أجواء الملحمة الإيطالية “الكوميديا الإلهية” أو ما يُسمى بـ’جحيم دانتي’ لصاحب أشهر مؤلف في القرون الوسطى والمؤسّس لنهضة أوروبا وسائر دول العالم عبر دمجه بين الواقعي والروحي وإظهار أهمية الإنساني والإلهي في آن واحد. فليس كل ما يحدث قضاءً وقدرا، وليس كل المسار التاريخي تحكمه ما ورائيات ليست لها علاقة بنيات وأفعال البشر”.

وتضيف “أما المؤثر الثاني فهو لبنانيّ محض، و”لارا” هو اسم فتاة لبنانية تقبع في أحد المستشفيات البيروتية إلى اليوم، وذلك منذ إصابتها الخطيرة خلال السنة الماضية في انفجار مرفأ بيروت والمناطق المجاورة له في الرابع من أغسطس 2020″.

بين الظاهر والباطن

 

شاعرية فجّة لأعمال فنية غير متحرّكة

من هنا نشأ الخليط في وجدان مغبغب ونُسجت المقاربات، كما تبنى هذا الخليط المخرج خوري وعمد إلى تركيبه بصريا بانسياب وذكاء كبيرين.

من الواضح من خلال إخراج الفيلم وأيضا من النص الذي كتبته مغبغب انحيازهما الهائل إلى البصريات؛ فالنص غنيّ بصوره الوصفية التي تناولت الظاهر والباطن، ومن ناحية ثانية استطاع المخرج بترجمة النص إلى فيلم أن يعرب عن قدرته على الدخول إلى أعماق أفكار صاحبة النص واستطاع أن يقبض على روح المأساة في فيلم قليل الكلفة، عميق الأثر، يُذكّرنا بالسينما الأوروبية العريقة التي لم تحتج يوما إلى خزعبلات التكنولوجيا والمؤثرات البصرية المُعقّدة والميزانيات المالية الضخمة، لأن مضمونها ونصها وأفكارها وحلول تلك العناصر في سرد بصري مُحكم هو عصب العمل الفني وأهميته وليس التقنيات المُستخدمة لإنجازه.

صور الأعمال الفنية الغزيرة والمتنوّعة الأساليب والحاضرة في الفيلم حصلت على مُخرج كنقولا خوري كي يُنطقها بما أرادت مغبغب أن تقوله كما ذكرنا آنفا. ولكن أيضا كي يُتيح لها، أي الأعمال الفنية، أن تظهر بأبعادها المُختلفة كحمّالة لأكثر من معنى، وذلك وفق اختلاف خلفية نظرة المُشاهد الثقافية والنفسية.

أطلقت مغبغب على هذا العرض تسمية “الفيلم/ المعرض” لأنه كذلك فعلا. فقد بنيت بصرية النص بأكمله على مجموعة كبيرة من لوحات لفنانين لبنانيين وغير لبنانيين. وأعطت لذاتها، بموافقة الفنانين، الحقّ في أن تجعل أعمالهم مفردات وكلمات متوقّدة في الفيلم الذي تولى المخرج خوري تظهيره بحرفية عالية.

المُشاهد سيتأكّد عند رؤية الفيلم، الذي يُعرض مجانا على اليوتيوب لفترة محدّدة، أنه من المستحيل أن يكون إنجاز فيلم كهذا -لا يعتمد إلاّ على صور لأعمال فنية غير متحرّكة- بهذه الشاعرية الفجّة والمُظهرة للمعاني لو لم يكن المخرج حليفا قويا للنص بصيغته المكتوبة وقارئا متواطئا مع اللوحات وإيحاءاتها بتفاصيلها وبهيئتها الكاملة على حد السواء.

لقد أدخل الفنان/ المخرج نقولا خوري إلى الفيلم بعض المؤثرات الصوتية والموسيقية، ولكن أبقى على اللوحات عُريها وبوحها بـ”سراديبها” الإيحائية، إذا صحّ التعبير، وشيّد تسلسلها الحاذق الواحدة بعد الأخرى فدبّت فيها الحياة لتكون أشبه بلقطات سينمائية متحرّكة من فيلم مؤلّف من مشاهد متعاقبة.

محاولة تطهير وخلاص

 

كلانا ميت.. مسألة وقت لا غير
كلانا ميت.. مسألة وقت لا غير

اللوحات والصور والمنحوتات التي ظهرت في الفيلم هي للفنانين إتيل عدنان وصموئيل كوزان وسمر مغربل وهدى قساطلي وسمير تابت وندى صحناوي وجيلبير حاج وأنّي لاكور وسافيريو لوكاربيلو وضياء مراد ويان ديموجي وفاديا حداد ونيكولاس غلياردون وإريك بواتقينوسرس.

وحول العلاقة التي نشأت بين جحيم دانتي وجحيم لبنان في نص مُحكم خال من الخزعبلات اللفظية، لا هو نص سياسي ولا هو اجتماعي ولا هو فلسفي ولا هو شعري، بل هو كل ذلك، توضّح أليس مغبغب “قبل 700 سنة حقّق دانتي ألغییري إنجازا بتوحيد شبه جزيرة إيطالية كانت تشكو من انقسامات شديدة فجمعها حول لغة واحدة هي لغة ‘الكوميديا الإلهية’، تلك التحفة الأدبية والفلسفية، وذلك الصرح اللغوي الذي سيشكّل خميرة فريدة لنهضة إيطاليا الحديثة”.

وتواصل “وفي العام 2021، من الجهة الأخرى من المتوسط ثمة بلد صغير عرف أنه نشر الأبجدية الفينيقية منذ آلاف السنين يغرق اليوم في بحر الظلمات.. لبنان، رهينة القوى السياسية والمالية والإقليمية والمحلية، يتفكّك، بل يكاد يضمحل ويختفي..’الجحيم.. رسالة إلى لارا’ ليست قصيدة ولا حكاية خرافة، بل إنها تجربة واقعية للنزول إلى الجحيم.. وتصوّر انحدار بلد بأكمله إليه..”.

ربما يجدر بنا أن نعقّب على كلام صاحبة النص قائلين إن الواقع الجحيمي في لبنان أصبح خياليا أكثر من الخيال لشدّة فظاعته، فظاعة لا يعرفها تماما إلاّ من يعيش في لبنان. هذا أيضا ليس كلام “حكاية خرافة” فقد حصل هذا العام خلال مؤتمر صحافي للرئيس اللبناني حين طرحت عليه إحدى الصحافيات سؤال “ماذا لو لم تتشكل الحكومة؟”، فأجاب “بالطبع نحن ذاهبون إلى الجحيم”، الأمر الذي كان صادما وأثار جدلا وانتقادا كبيرا عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

هو فعلا الجحيم؛ جحيم بالنسبة إلى “لارا” القابعة في المستشفى وجحيم أوسع انزلق إليه اللبنانيون انزلاقا يكاد يكون بسبق الإصرار والتصميم، رغم أن أحدا لا يستطيع نفي حقيقة أن فئات واسعة من اللبنانيين شاركت أو ساهمت في تسهيل مهمة الانزلاق إليه.

جحيم دانتي هو مطهّر ومعبر للخلاص، فهل يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى اللبنانيين؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى