تجديد الثورة الشعبية السلمية ضد الثورة المضادة العسكرية
بقلم: رفيق خوري

من الصعب تركيز ديكتاتورية جديدة في السودان بعد الخروج من سجن ثلاثين سنة

النشرة الدولية –

وقع في السودان ما كان متوقعاً منذ مدة: انقلاب المكون العسكري على الثورة والشريك المدني في المرحلة الانتقالية، وتجدد الثورة الشعبية السلمية في الشارع ضد الحكم العسكري والثورة المضادة. التاريخ يتكرر، ولعبة العسكر الكلاسيكية تتطوّر.

والسودان، كما قال آخر حاكم بريطاني له، بلد صعب “لا يحكمه إلا نبي أو غبي”. وقد حكمه حيناً أغبياء مثل الجنرال عبود، وفقهاء مثل الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي. حكمه أنقياء مثل الجنرال سوار الذهب الذي أعاد الحكم إلى المدنيين. حكمه أدباء وشعراء مثل محمد أحمد محجوب. وحكمه طويلاً خبثاء تغطوا بالإخوان المسلمين وكادوا يدعون أنهم أنصاف أنبياء مثل المشيرين جعفر النميري وعمر البشير. تناوب على حكمه المدنيون والعسكر. وللمرة الأولى تشارك في حكمه العسكر والمدنيون منذ إطاحة حكم البشير والإخوان المسلمين، لكنه لم يستقر على حال منذ الانفصال عن مصر وإعلان الاستقلال. يذهب إلى الانتخابات فتفوز الأحزاب التقليدية التي تقودها عائلات دينية مثل آل المهدي حيث “الأنصار” وآل الميرغني حيث “الختمية”. يقوم العسكر بانقلاب ثم يضطرون بقوة الحراك الشعبي إلى ترك السلطة، فتعود الأحزاب نفسها إلى الواجهة، وإن شاركها أحياناً الحزب الشيوعي وحزب البعث والإخوان المسلمون.

التمايز واضح بين المكون العربي والمكون الأفريقي. جزء من حرب دارفور كان عنوانه تضارب المصالح بين المزارعين الأفارقة والرعاة العرب. حرب الشمال والجنوب التي دامت سنوات طويلة انتهت بانفصال الجنوب واستقلاله، فلا استقر الشمال، ولا الجنوب الذي دارت فيه حرب أهلية ذات طابع قبلي. بلد في حجم قارة متعدد المشارب يراد حكمه بمركزية شديدة وفرض الشريعة الإسلامية أحياناً على شعبه المتنوع دينياً وطائفياً وعرقياً. وكلما بدأ التوجه نحو حكم مدني صار مطلب الجميع تقاسم “الثروة والسلطة”. اتفاق الشراكة الموقع في جوبا بين الحركات المسلحة في دارفور والحكم الانتقالي المدني والعسكري في الخرطوم أثار مشكلة في الشرق المهمل. تمردت “نظارات البجا” بتحريض من المكون العسكري، وأغلقت المرفأ السوداني الوحيد على البحر الأحمر في بورتسودان والطريق إلى الخرطوم، وتعطلت سلاسل الإمداد الغذائي وسواه.

وقوى “الحرية والتغيير” التي شاركت العسكر في مجلس السيادة وتألفت منها حكومة عبد الله حمدوك انشقت عنها قوى انضمت إليها قوى أخرى بدعم من العسكر تحت عنوان الحرص على توسيع إطار السلطة في المرحلة الانتقالية، لكن الهدف هو تضييق الدور المدني على الطريق إلى التخلص من الشراكة مع المدنيين، بعد القضاء على محاولة انقلابية قام بها ضباط طامعون في السلطة وآخرون من الموالين للبشير والإخوان المسلمين.

وهذا ما حدث ضمن سيناريو من ثلاثة فصول. في الفصل الأول ركب العسكر موجة الثورة الشعبية السلمية، فتخلصوا من البشير الذي صار سقوطه حتمياً، وأصبحوا شركاء في الثورة. وفي الفصل الثاني عمل المكون العسكري على “احتواء” الثورة وتحميل المكون المدني المسؤولية عن البطء في حل مشاكل السودان المزمنة، من دون أن يساعده كما تنص وثيقة الإعلان الدستوري. وفي الفصل الثالث حرّكوا مجموعات من الحركات المسلحة التي دخلت في السلطة واعتبروا أن الظروف نضجت للانفراد بالسلطة، فقاموا بانقلاب كامل الأوصاف: حل الشراكة، وحل مجلس السيادة والحكومة، واعتقال الوزراء والقيادات، وإعلان الطوارئ. ولا مجال لتمويه الواقع بادعاء الفريق عبد الفتاح البرهان أن ما قام به الجيش هو لـ”تصحيح الثورة” وإنقاذ السودان من “خطر الفوضى”. فما قاد إلى تسريع الانقلاب هو مطالبة المكون المدني بتسلم رئاسة مجلس السيادة من البرهان حسب الوثيقة الدستورية للمرحلة الانتقالية. المكون العسكري رفض التخلي عن الرئاسة، ورئيس الحكومة حمدوك رفض مطالبة العسكر له بحل الحكومة، والوساطة الأميركية التي قام بها الموفد الخاص إلى أفريقيا جيفري فيلتمان السفير السابق في لبنان فشلت.

والخطير هو أن المكون العسكري لم يتوقف أمام التظاهرات المليونية في الخرطوم وبقية المدن للمطالبة بتسليم السلطة للمدنيين. ولا يبدو أنه تهيب الاصطدام بالشارع ومواجهة غضب الولايات المتحدة، وأوروبا وقلق الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، وتعريض البلد المحتاج إلى كل أنواع المساعدات لوقف المساعدات والعزلة الدبلوماسية، لكن من الوهم تجاهل ذلك كله من دون التبصر بما يحدث في اليوم التالي للانقلاب بقيادة بشير آخر. ومن الصعب تركيز ديكتاتورية جديدة في السودان بعد الخروج من سجن ثلاثين سنة مع عمر البشير والإخوان المسلمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى