الحكومة والانتخابات تسقطان في نار الخلافات!
بقلم: اكرم كمال سريوي
النشرة الدولية –
بعد أن تعطلت جلسات الحكومة بسبب الخلاف حول التحقيق في انفجار المرفأ، ومطالبة حركة أمل وحزب الله بتغيير القاضي بيطار، التي تكللت بأحداث الطيونة وما نتج عنها من إراقة دماء واستدعاءات قضائية وضعت البلد على شفير الحرب والفتنة، جاء الآن دور تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي، الذي لم يكن موفّقاً منذ اليوم الأول لتعيينه وزيراً. فكلامه لدى وصوله إلى مطار بيروت جعله عِرضة لانتقادات واسعة، حيث فُهم منها أنه ينوي التضييق على حرية الإعلام. ورغم أن القطوع الأول مرّ بسلام، لكن استعادة أحد تصريحاته القديمة، التي اتخذ فيها موقفاً منحازاً، بوصفه حرب اليمن «بالعدوان السعودي على الحوثيين الذين اعتبرهم يخوضون حرب دفاع عن النفس» ، جاء ليفجر أزمة قطع علاقات بين لبنان وأشقائه العرب، الذين اعتبروا تعيين قرداحي وزيراً للإعلام بمثابة مكافأة له، وموافقة ضمنية من حكومة ميقاتي على هذا الموقف العدائي ضد العرب.
لقد باتت الحكومة المشلولة عاجزة عن إكمال مسيرتها، وأفادت معلومات مقرّبة من الرئيس ميقاتي، أنه قد يلجأ إلى تقديم استقالته، في حال لم يعاود مجلس الوزراء عقد جلساته وإقالة أو استقالة الوزير قرداحي.
وكان قد سبق ذلك محاولة تعطيل المجلس النيابي، عندما انسحب تكتل لبنان القوي من جلسة مناقشة تعديلات قانون الانتخاب، الذي رده رئيس الجمهورية بحيث ثار الخلاف على احتساب الأغلبية المطلوبة لإعادة التصديق عليه، بين 59 أَم 65 نائباً، فدفع أهالي الطلاب الذين يدرسون في الخارج ثمن هذا الخلاف، الذي منع تجديد قانون «الدولار الطالبي»، والذي كان مدرجاً على جدول أعمال الجلسة، مع عدة قوانين أُخرى، ليبقى مصير الطلاب معلقاً، ويُطرد قسم منهم من جامعاته. ومن في الأساس يسأل عن مصير هؤلاء الطلاب، فنواب الأمة مشغولون بمناكفاتهم، وبرفع رواتبهم التي تجاوزت 45 مليون ليرة، فيما ما زال الحد الأدنى للأجور 600 الف ليرة .
كثيرة هي المواد الإشكالية في الدستور اللبناني، وفي كل مرة نواجه هذه المعضلة يتعطل البلد إلى أمد طويل، وكلنا نذكر كيف تعطل انتخاب رئيس للجمهورية مدة سنتين، والنقاش الذي دار حول تفسير المادة ٤٩ من الدستور التي تنص على : یُنتخب رئیس الجمهوریة بالاقتراع السري، بغالبیة الثلثین من مجلس النواب في الدورة الأولى، ویكتفي بالغالبیة المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.
تحدثت المادة 57 من الدستور عن حق رئيس الجمهورية بإعادة القانون إلى المجلس النيابي، وطلب إعادة النظر فيه وأضافت : وعندما یستعمل الرئیس حقه هذا یصبح في حل من إصدار القانون، إلى أن یوافق علیه المجلس بعد مناقشة أخرى في شأنه، وإقراره بالغالبیة المطلقة (أكثر من 50%) من مجموع الأعضاء الذین یؤلفون المجلس قانوناً .
نلاحظ أن المشرّع أضاف في المادة 57 وكذلك في المادة 79 المتعلقة بتعديل الدستور كلمة «قانوناً» على عبارة «الأعضاء الذين يؤلفون المجلس» في حين لم يذكر هذه الكلمة في المادة 34 المتعلقة بقانونية جلسات المجلس، ولا في المادة 49 المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية.
قد يكون سقط هذا الاختلاف في النص سهواً .(وتم استعمال كلمة «غالبية» بدل «أغلبية» وهذا خطأ لغوي أيضاً) لكن بالنسبة لتفسير النص القانوني لمواد الدستور، من أي جهة كانت، بات أمراً مكتوباً ولا يُمكن تجاهله. كما لا يمكن تجاهل أن يكون المُشرّع قد قصد فعلاً التفريق بين هذه الحالات في احتساب الأغلبية المطلوبة لانعقاد المجلس النيابي.
بتاريخ 1988/1/20 تبنّت هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل رأياً اعتبرت فيه أن عبارة« العدد الذي يتألف منه مجلس النواب قانوناً» تعني العدد الذي نص عليه قانون الانتخاب(128 نائباً وفق القانون الحالي) ، وليس العدد الفعلي المتبقي من النواب بعد حالات الشغور التي تحصل بسبب الوفاة أو الاستقالة أو غير ذلك.
لكن مجلس النواب قرر في 29 أيار 1980اعتماد قاعدة نصاب «الأعضاء» لا نصاب «المقاعد»، ثم كرر المجلس بموجب القانون رقم 11 تاريخ 1990/8/8 القاعدة التالية لاحتساب النصاب: «بصورة استثنائية، وحتى إجراء انتخابات فرعية أو عامة وفقاً لأحكام قانون الانتخاب، وبالنسبة إلى النصاب المقرر في الدستور، يعتبر عدد أعضاء مجلس النواب الأعضاء الأحياء». ولم يتم الطعن بدستورية هذا القانون الذي ما زال مجلس النواب مصرّاً على تطبيقه حتى اليوم رغم أنه ذكر عبارة «بصورة استثنائية» ورغم زوال الاستثناء.
الغريب في الأمر أن المشرّع لم يلحظ في الدستور معالجة لحالات الفراغ الكبير الذي قد يلحق بالمجلس النيابي. فالمجلس لا يسقط باستقالة ثلث أعضائه ولا تتعطل جلساته حتى، (كما هو حال الحكومة مثلاً). وربما السبب في ذلك يعود إلى نص المادة 41 التي تفرض ملء الشغور في المجلس النيابي خلال شهرين : «إذا خلا مقعد في المجلس یجب الشروع في انتخاب الخلف في خلال شهرین».
إستناداً إلى نص هذه المادة، يكون كل مسؤول يتخلّف عن اتخاذ التدابير اللازمة لإجراء الانتخابات الفرعية، قد خالف الدستور، ويجب محاكمته بجرم خرق الدستور . وهذا ما المح إليه بعض النواب ورجال القانون عندما تحدثوا صراحة عن مخالفة الرئيس ميشال عون للدستور، خاصة بِعدم توقيعه مرسوم دعوة الهيئات الناخبة لإجراء الانتخابات الفرعية، منذ أكثر من سنة تقريباً.
بالرغم من كل ذلك يبقى اعتماد قاعدة احتساب الأغلبيةالمطلوبة في الدستور، على أساس عدد الأعضاء الفعليين للمجلس، وليس على أساس العدد الذي نص عليه قانون الانتخاب خطيرة، خاصة في حالات الفراغ الكبير الذي قد يحصل في المجلس.
فماذا مثلاً لو استقال من المجلس كل من ؛ المستقبل 19 نائباً، والقوات اللبنانية 15 نائباً، واللقاء الديمقراطي 9 نواب، فيكون العدد المتبقي هو 85 نائباً ، وإذا طبقنا قاعدة نِصاب العدد الفعلي، يكون نِصاب الثلثين هو 57 نائباً فقط، يستطيعون أن يجتمعوا ويعدّلوا الدستور أو ينتخبوا رئيساً للجمهورية، دون إمكانية اعتبار ذلك مخالفة لقواعد الدستور، لا لجهة الميثاقية ولا لناحية احتساب العدد المطلوب.
أمّا الجانب الأخطر في الأمر، فهو السماح بتعديل الدستور وتغيير نظام البلاد، بأقل من نصف عدد النواب، الذين يجب أن يمثّلوا في مثل هذه الحالات أغلبية ومختلف شرائح وفئات الشعب اللبناني، تطبيقاً لمبدأ الديمقراطية، وشرعية سلطة وحكم الأكثرية ، دون أن يتم تشويه هذه الأكثرية أو التحايل عليها بأي شكل من الأشكال.
لا شك أن لبنان يعاني أزمة نظام ويجب معالجة المواد الغامضة في الدستور، والاتفاق بشكل واضح على تفسيرها، لكن يبدو أن الوقت الآن لا يسمح بخوض غمار هذه المغامرة، التي قد تشلّ البلاد وتضع مصير الوطن في المجهول، كما ليس من المستبعد إطلاقاً أن يؤدّي التجاذب الحاصل حول تفسير الدستور وقانون الانتخاب، إلى تعطيل الانتخابات النيابية المقبلة، وفرض واقع تأجيلها، خاصة أنها على ما يبدو لن تكون نتائجها لصالح معظم الأحزاب والقوى السياسية، وبالأخص تلك التي هي متحكمة في السلطة الآن.
لقد جاء رد رئاسة الجمهورية على الاتهام بخرق الدستور في موضوع عدم توقيع مرسوم إجراء الانتخابات الفرعية، ضعيفاً من الناحية القانونية، وغير مقنع، خاصة لجهة اتهام النواب ورجال القانون والإعلام بمحاولة النيل من الرئيس، لا بل هو يثير الشكوك أكثر في اعتماد ذات الأسباب لتأجيل الانتخابات في الربيع المقبل، خاصة أنه لم يتغيّر شيء تقريباً في الموانع التي وردت في مطالعة الرئاسة ومنها ؛ الحالة الصحية وخطر تفشّي وباء كورونا على المشاركين في الانتخابات وضرورة اعتماد اجراءات وقاية صحية؛ عجز الدولة المالي عن تأمين مستلزمات الانتخابات، فإذا كانت قد عجزت عن تأمين انتخابات فرعية لبضعة مقاعد ب 5500 عبوة حبر ، فكيف ستتمكن من إجراء انتخابات عامة؟، كذلك ابتداع فرضية احتمال عدم حصول أي لائحة على الحاصل الانتخابي في دائرة المتن؛ وحجة رأي هيئة التشريع في وزارة العدل باستحالة اجراء الانتخابات النيابية في ظل تمديد حالة الطوارئ في بيروت؛ وحجة تضرر وعدم جهوزية المدارس التي ستُستخدم كمراكز اقتراع؛ ومعوقات إجراء الانتخابات التي أوردتها وزارة الداخلية ، كل ذلك لم ولن يتغيّر فيه شيء حتى الموعد المقبل للانتخابات.
لذلك نحن شاهدنا وسنشاهد على الأرجح في الأيام المقبلة عدّة سيناريوهات؛ من التوتير الأمني، والقضائي، إلى النزاع القانوني وجدل الصلاحيات، إلى تفاقم الأزمة المعيشية، والعجز المالي للدولة، وحملة عودة تفشّي الوباء وعجز القطاع الصحي، وكل ذلك يصب في اتجاه واحد هو التأجيل الحتمي للانتخابات النيابية والبلدية، وربما الرئاسية أيضاً، التي سيحين موعدها في العام المقبل.