طلب الحكومة اللبنانية وساطة واشنطن مع الرياض: الأبعاد والتوقّعات
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
أن تقطع دول بارزة ومهمة في الخليج العربي علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع لبنان، فهذه سابقة تاريخية، ولكن أن تطلب الحكومة اللبنانية وساطة الولايات المتحدة الأميركية لإعادة العلاقات الى طبيعتها مع المملكة العربية السعودية، فهذا حدث تاريخي.
من دون شك إنّ “السابقة التاريخية” تطوّر سلبي للغاية، من شأنه رفع منسوب الكارثة التي يعاني منها اللبنانيون، على كل المستويات، ولكن هذا التوصيف السلبي لا ينطبق بالضرورة على “الحدث التاريخي”.
صحيح أنّ توسيط الولايات المتحدة الأميركية يُبيّن مدى انحدار المستوى الذي وصل إليه حكّام لبنان، بحيث باتوا عاجزين عن مخاطبة المملكة العربية السعودية التي طالما ربطتها بلبنان وقياداته علاقات ممتازة ومميّزة، ولكنّ الصحيح أكثر أنّ لجوء بيروت الى واشنطن لجسر الهوة مع الرياض هو تسليم بدور حاسم لدولة كبرى تتقاطع استراتيجياً في النظرة إلى واقع لبنان ومستقبله، مع السعودية، وإن اختلفت تكتيكات الدولتين.
كانت طبيعة الأمور السياسية في لبنان تفترض أن تطلب حكومته من فرنسا القيام بمهمة الوساطة، بصفتها معنية بتشكيلها، من جهة أولى وكان رئيسها إيمانويل ماكرون أوّل رئيس دولة يستقبل رئيس هذه الحكومة نجيب ميقاتي، من جهة ثانية ولكنّها فضلت الجانب الأميركي الذي، خلافاً لفرنسا، لا يُراعي خواطر “حزب الله” مطلقاً.
إنّ الوسيط الأميركي الذي استنجدت به بيروت كان، قبل يوم واحد، قد أنزل عقوبات إضافية بثلاث شخصيات لبنانية بتهم الفساد بينها جميل السيّد الذي جاء نائباً بفضل “حزب الله” وحظي دون “زميليه المعاقَبين” ببيان تضامني من هذا الحزب الذي يعادي واشنطن ويضع نصب عينيه هدف إخراج الأميركيين، بصفته جزءاً من منظومة “الحرس الثوري الإيراني”، من الشرق الأوسط.
وفي تقييم حقيقي للأزمة التي تعمّقت بين لبنان والسعودية ومعها عدد من الدول الخليجية، فإنّ “حزب الله” يلعب دوراً جوهرياً في إيصال الأحوال إلى ما وصلت إليها، في حين لا يشكّل الإستياء من كلام وزير الإعلام جورج قرداحي، سوى نقطة في البحر، إذ جرى اعتماده كدليل على النوعية السياسية التي تتم مكافأتها بمناصبرفيعة في منظومة السلطة اللبنانية.
ولكن، هل تملك الحكومة اللبنانية أدوات الإلتزام بتعهّدات قطعتها للوسيط الأميركي، حتى يثمر تحرّكه سعودياً؟
من دون شك، تنظر الولايات المتحدة الأميركية الى النهج الواجب اتّباعه تجاه السلطات اللبنانية، بطريقة مختلفة عن ذاك الذي تعتمده المملكة العربية السعودية.
بالنسبة لواشنطن، لا بد من المواظبة على العمل من أجل نزع لبنان من “النير الإيراني” مهما اشتدّ وقوي، وتالياً يجب عدم التسليم باستسلام الدولة ل”حزب الله”، ولهذا، فهي تصرّ على مواصلة المساعدات للمؤسسات العسكرية والأمنية يتقدّمها الجيش اللبناني، وعلى إبقاء “شعرة معاوية” التي تربطها بشخصيات سياسية وأهلية كما بمنظّمات غير حكومية، وعلى إعطاء الثقة للشعب بمستقبل بلاده، من خلال المبادرة الى تزويد لبنان بالغاز المصري والكهرباء الأردنية، بتمويل من البنك الدولي، ومن خلال إنشاء منظومة استثناءات في “قانون قيصر” الذي يستهدف نظام بشار الأسد، في سوريا.
من المؤكّد أنّ المملكة العربية السعودية لا تشاطر واشنطن “تفاؤلها”، فلبنان لم يقع بين ليلة وضحاها تحت هيمنة “حزب الله”، ولا علاقة تربط تمدّد النفوذ الإيراني في “بلاد الأرز” بالأزمة المالية-الاقتصادية، لأنّ هذا النفوذ ترسّخ وتلك الهيمنة حصلت، في وقت كانت لا تزال الرياض تفتح خزائنها للدولة ومؤسساتها وتمد يديها لكثير من الفرقاء اللبنانيين، وتالياً فهي تجد أنّه حان الوقت للبنانيين أنفسهم، إذا كانوا معنيين حقاً بمستقبلهم، أن يبذلوا أقصى جهودهم لإنقاذ أنفسهم من هيمنة “حزب الله” وتحرير بلادهم من نفوذ إيران.
وهذا بالتحديد ما يفسّر الزيارة التي قام بها، السفير السعودي في لبنان، عشية مغادرته بيروت.
وعليه، فإنّ مهمة الوسيط الأميركي لن تكون سهلة في السعودية، فهذه ليست المحاولة الأميركية الأولى، إذ جرت محاولات سابقة عدّة باءت كلّها بالفشل، بعضها بالإشتراك مع فرنسا، لإقناع الرياض بإعادة النظر في نهجها المعتمد تجاه لبنان.
إنّ كثيراً من التطوّرات في المنطقة وآخرها “الإنقلاب” في السودان-كما يصفه البعض-أو “الحركة التصحيحية-كما يصفه البعض الآخر-بيّن أنّ الرياض تملك مع منظومة حليفة لها في المنطقة، كلمة مختلفة تماماً عن الكلمة الأميركية، وهي لا تتوانى عن تطبيقها، حيث لها مصلحة استراتيجية ولديها إمكانات.
وقد جاءت مواقف وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لقناة “العربية”، مساء أمس كما لو كانت “الإطار التفاوضي”، بحيث تحدّث عن “حاجة لبنان الى إصلاح شامل يعيد له سيادته وقوته ومكانته في العالم العربي” مشدّداً على أن “هيمنة حزب الله على النظام السياسي في لبنان (…) تجعل التعامل مع لبنان غير ذي جدوى”.
وهذا الموقف السعودي يسمح بالاعتقاد أنّ الوسيط الأميركي سوف يعود من الرياض، بعد بدء مهمته التي طلبها لبنان الرسمي أمس، حاملاً معه شروط قيادتها لإعادة العلاقات اللبنانية-الخليجية الى دفئها، وهي شروط تتمحور حول “حزب الله” وأدواته السياسية والقضائية والعسكرية والأمنية في البلاد.
وهنا “مكمن الداء” في هذا الموضوع، فهل يمكن أن تنتزع الحكومة تنازلات نوعية من “حزب الله”؟ وفي حال الرفض، هل تملك هذه الحكومة قدرات لتفرض ذلك فرضاً؟
من الثابت، بالتجارب المتعاقبة أنّ “حزب الله” لا يسمح بتمرير أيّ قرار لا يناسبه، حتى لو كلّف البلاد والعباد دماً ودموعاً والإقتصادنزيفاً ودماراً.
يصاف الى ذلك أنّ كثيرين يعربون عن اقتناعهم بأنّ “حزب الله” يهلّل كلّما ابتعد لبنان عن النظام العربي والتصق أكثر فأكثر، في “محور الممانعة”.
وهذا يفيد بأنّ الوقت لن يتأخّر كثيراً قبل أن تفقد الحكومة “ماء وجهها” تجاه الأميركيين، وتنعدم كليّاً ضرورة استمرارها تجاه اللبنانيين، الأمر الذي من شأنه دفعها الى استقالة باتت مطلب كثيرين في الداخل اللبناني.
ولكن، في لبنان الذي أدخله عهد الرئيس ميشال عون “القلِق” من تداعيات حلول سنته الأخيرة اليوم، الى الجحيم ليس هناك من يؤمن بالعبارة التي كتبها دانتي إليغييري على باب جحيم “الكوميديا الإلهية”:” أيها الداخلون هنا، إقطعوا كلّ أمل”.
إنّ لبنان وطن لا يتوقّف حكّامه، خدمةً ل”تأبيد” أنفسهم وسلالاتهم في السلطة، على الرغم من الكوارث التي أوقعوه ويوقعونه فيها، بسبب استشراء فسادهم هنا وتسليم أمورهم لميليشيا هناك، عن الإيحاء بأنّ زمن المعجزات…عائد.