ماجدة داغر،في باكورتها: «بيت الذّاكرة والقامات العالية»
تُسكِنُ أصحاب القامات ذاكرةَ الإنسانيّة الثّقافيّة
سليمان يوسف ابراهيم
أن تُترَعَ الكأسُ من نادلها، ففي ذلك زهوٌ! وكيف هي الحال، إن ارتُشفَت الباكورة سُلافا من يد كرّامها وقد عَهِد بها إلى خمّارٍ ذواّقة، سعى إلى الأقبية، يهدهد صدورَ خوابيها… ليُقطّرها في أحلاق نُدماءٍ ذابوا خلف عُقار الكلمة البكر، من أفذاذ فكرٍ وشعرٍ وفلسفةٍ توزّعوا ما بين شرقٍ وغربٍ، منتشرين سُرجا لا تنوص ولا تخفتُ منها ذؤآبةٌ أو بصيصٌ، على دروب إنسانيّةٍ،عطشى إلى ما ومَن يُوقد المحبّةَ وجدا في القلوب، والمعارفَ وهجا نيّرا في العقول! وبرأيي؟ إنّ الفضل الجليل سيّان بين واضع الأثَر وناشره بين النّاس… وهذا، ما تفضّلت به الآنسة ماجدة داغر في ما أقدمت عليه من نضح حبرها، في كؤوس سُمّار الكلمة المتلهّفين لها عطرا ومذاقا ودوام حضورٍ، يوم جمعت لهم بوتقة من خمرة الأقلام في خابيةٍ من ورقٍ وحبر، أسمتها «بيت الذّاكرة والقامات العالية«! دعوتُ نفسي لزيارته… وقصدت الدّار ورحت أتصفّح وجوه سُكّانه آملا الإمساك بوشائج تواصلٍ ووصال بين ماضٍ مجيد وحاضرٍ مريرٍ ومستقبلٍ أودُ أن يبنيه للأجيال أسيادُ القلم والكلمة، علّه يتحقّق لنا دوام بقاءٍ، في زمنٍ كلُّ ما ومَن فيه يحقّق الفناء لكلَّ ما ومَن يُحتسَب من ضمن دائرة أحيائه!!
وبالدّخول إلى »بيت الذّاكرة«،الّذي استوطنه أَصحاب القامات العالية، يستوقفونك بلطف وتواضع الكبار عند كلّ باب، أمام كلّ نافذة، على مُطلق أيَّة شُرفةٍ، تراهم ينهبون مسافات الزّمن، كلٌّ في مناسبةٍ تخصّه. وأبتِ الكاتبةُ أن تمُرَّ به على السّكت مُزدردة مروره بالبال، مؤكّدة على بقائه أو بقائها حيّة في القلوب والعقول، بخاصّةٍ وأنّهُ »ليس أمضى من سلاح الكلمة في وجه الأيّام«!وكيف لا؟ إن كان أصحابها من الأفذاذ والأئمّة، من شرقٍ وغربٍ،من أيّام الحضارة السّومريّة حيثُ تطلّ علينا الشّاعرة الأولى في التّاريخ،كاهنة المعبد »أنهِيْدوانا«، ذاك »الصّوت الحازم والقوي الّذي يتوجّب على كلّ النّساء سماعه«، على قولة الكاتبة.ناهيكَ إلى »سافو« الشّاعرة الإغريقيّة الّتي طبعت شعر زمانها بمذهب » السّافَويَّة« الّذي صار بدوره يختصر الدّلالة على »المَلَكة الشِّعريَّة الرّاقية« حيث يتقاسم صفة الشّاعريّة عند الإغريق: هوميروس عن الرّجال، وتُختصَرالنّساء بـ»سافو«، وصولا إلى »فيدريكو غارسي لوركا« ذاك الشّاعر الغرناطيّ »الّذي صبغ ذاكرة القرن العشرين وطاف في شُعرائها« من أمثال محمود درويش. مرورا بعمر الخيّام الّذي ترك للمكتبة الأوروبيّة رباعيّاتٍ »تُباع بالذّهب« وتغدو الأشهر بعد الإنجيل، والّتي ترجمها الشّاعر الإنكليزي »إدوارد فيتزجرالد«،من الفارسيّة. وقوفا بـ»كاتب الأعصاب«، إدغار ألن بّو، كما لقّبه »بودلير«… و»لوتريامون شاعر السّرياليّة الملعون، فـ»سيمون دي بوفوار« أُنثى الجنس الثّاني، فإلى »شارلزبوكوفسكي« صاحب المفاجآت الصّادمة« و»جورج صاند« العاشقة المناضلة، وصولا إلى الكاتب الزّنجي الآتي من المارتينيك- إحدى المستعمرات الفرنسيّة- باحثا عن جذوره، رافضا لأيّ تمييزٍ عُنصريٍّ عاناه عرقه الأسود.ناهيك إلى »إميلي ديكنسون«، تلك النّاسكة خلف الرّداء الأبيض »المتسلِّلة إلى الخلود بصمتٍ ملأ القرن شِعرا مجنون القوافي…« والكاتبة الألمانيّة »هبرتا مولير«،كاتبة المحرومين، الّتي أهدتها الأكاديمية السّويديّة جائزتها الرّفيعة،جائزة نوبيل للآداب…
وأنا أنتقل من الشّرفة الغربيّة في رحاب »بيت الذّاكرة«، أجد نفسي منتصبا على الشّرفة الشّرقيّة في حضرة بوتقةٍ من الأقلام اللّبنانيّة معطوفة على جملةٍ من الأقلام العربيّة الّتي تتناول نتاجها المؤلّفةُ، نثرا وشِعرا، بكلّ ما أُوتيت من رهافة حسّ سيّل حبرها، وسِعة ثقافةٍ أشبعت جوع الورق إلى معارفَ، تحبِّبُ المطالعة إلى قلوب النّاس، في زمنٍ عزّ فيه القارئ العربي على كافّة المستويات؛ حيث تتناول ماجدة داغر الآثار الأدبية وأصحابها، تلميحا وتصريحا ودراسة، في مناسباتٍ شتّى تتراوح بين تكريم وذكرى وتذكُّرٍ وتذكار… علّها بِما هي مُقدمةٌ عليه تحيي أمجادا في ذاكرة وطنٍ وأهله، يكون لهما من توقُّد فكر كباره والأئمّة، ما يحثّ الأجيال على مواصلة نضالٍ، إبّان رحلة الأجيال ما بين حفظ أمجادٍ من ناحيةٍ، والإستمرار توقّدا واعيا على دروب بناء غدٍ، مانعة تناثر إبداعات الأجداد على أرصفة الأيّام، تحت خطوات الزّمن!!
يتصدر مقالات الفصل الثّاني من رحلة الذّاكرة حبيب »غلواء« وحاوي »أفاعي الفردوس«، الشّاعر الياس أبو شبكة، الدّاعي كلّ من رام ريَّ الشّعر صدقا، أن يجرح القلب ليكتب بمدادٍ من دماء! مرورا بصاحب »تراجيديا السّقوط والإنبعاث« الشّاعر خليل حاوي، من لحظة أن قرّر مدّ أضلُعه جسرا ما بين الشّرق… والشّرق الجديد! وقوفا بالعملاق منصور الرّحباني، الّذي هيض جناحه بسقوط عاصي أخيه في منتصف المشوار… غير أنّ النّسور والصّقور والشّواهين تأبى الإنكسار… فإن سقط من البيت الشّعري حرفٌ بات مكسورا، فكيف إن كان الشّعر الرّحباني قد حلّق بشطرَين، وقد هوى الشّطر الثّاني عَرضا؟ ممّا حتّم على منصور أن يكتب من بعدعاصي بماء الدّمع النّير بدلا من ماء الحبر المُعتِم! وصولا إلى الكبير سعيد عقل، الّذي يكفي العربيّة مجدا: أن كتبَ شاعر العصر شعره بأحرفها، كي يتحقّق لها الخلود بين اللّغات الحيَّة! أمّا »قيلسوف الفريكة«،أمين الرّيحاني، »مرّ في شرقنا سحابة أنوارٍ، وفي غربهم بوابة مدائن وعُصارة أنبياء، ناثرا أريج فلسفةٍ شاعرة وعطر ريحان لبنان.»وهل يكتمل عقد رحلةٍ فكريّةٍ من دون المرور بفكر شيخ الأُدباء، وباني مدرسةٍ نقديّةٍ متميّزةٍ في رحاب الأدب العربي بعامّةٍ، من وزنة مارون عبّود؟ ذاك الّذي جعل لمعظم فكر معاصريه وأدبهم نكهة ومذاقا بعد أن أنزله ميزان عدله وقسطاسه… وهل أجلّ من عظمة العمارة الفكريّة الّتي خلّفها من بعده وتربو على السِّتين كتابا من خالص دُرّ الأدب والنّقد، علَما مؤسِّسا لفن الأقصوصة في شرقنا الغني بالحكايات؟! وسياحة قصيرة بفكر هاتيك الرّائدة الّتي تُزفُّ إلى النِّسيان عروسا للأدب، حزينة، جراء ظلم ذوي القربى الّذي يبقى أشدّ مضاضة… ميّ زيادة، أيّتُها المتألّقة طُهرا ووطنيّة وإنسانيّة، مُحبَّة ومحبوبة في كلّ ما خلّفت ريشتكِ من مقال ودراسةٍ وخَطابَة…! ونتابع النّـزهة الفكريّة لنلتقي بشيخ الأدب السّاخر،أحمد فارس الشّدياق،صاحب »السّاق على السّاق في ما يقول الفارياق«، والفارياقُ هو أول حرفين من إسم الكاتب مُدغما مع آخر حرفين من اسم عائلته،وهذا الأخير يُعتبرُ من أهم النتاجات الأدبيّة في القرن التّاسع عشر.وبحسب ما جاء عنه على لسان مارون عبّود: »أبو الكتاب الأدبي في النّهضة الحديثة، وباني دولة أدبيّة شرقيّة غربيّة، وأوّل مَن كتب المقالة الصّحافيّة«. وهل يجوز الكلام على أصحاب »القامات العالية«، من غير أن تتناول الكاتبة في حديثها نبيّ بشرّي، جبران خليل جبران، في ذكرى ولادته المئة والخمسة والعشرين،… وقلّةٌ مميّزةٌ مَن » يغدو حيّا بهم الحجرُ…«! وللكاتبة أيضا وقفةٌ مع الشّاعر الجبيلي »جوليان حرب«،في ذكرى رحيله الخامسة، وهوصاحب الأوراق المتناثرة، الّتي تسكنها رقّة الرّوح العربيّة برقَّة اللّغة الفرنسيّة، حيث »ذُكِرَ كأحدى مواهب هذا الجيل الشّعريّة، إلى دائرة المعارف الفرنكوفونيّة الّتي تضمّ كبار الشّعراء العالميين بالفرنسيّة…«.وهل نمرُّ بقافلة القامات من غير الوقوف بعالية بينها من وزنة راجي عشقوتي »وجدان الأدب« وحامل »ذاكرة الأيّام«، شِعرا وأدبا ومُداخلات سياسيّةٍ وإنمائيّةٍ رأيا ومُشاركة إنطلاقا من حبيبته الأزليّة، بلدته الكنَيسِه! وصولا إلى صلاح لبكي الّذي لم تكفِه أُرجوحة نصبتها له الطّفولة، فامتطى القمر أُرجوحة لأمانيه والأحلام »في تكاتف روحانيّته، انعتاقا من المحسوس«. واستراحة بين راحتَي الحبّ والجمال، في رحاب بحر الغزل، نزار قبّاني، الّذي جعل من المرأة وطنا يفتقر إلى الإنتماء خارج حدوده، ومن شعره خريطة وصول إلى عواصم النِّساء، قلوبهُنَّ، حيثُ يُسكِنّهُ الأحداقَ ويُملِّكُونَه على الوجدانات ومراتع الأحلام… فيُبدي عليهُنَّ سطوة مُحبَّبة، بعد كل نهدة شعرٍ وهمسة شعورٍ، أخجل المتغزّلين بالجمال من بعده… وصاروا يحسبون للجِدَّة في القول والفكرة أَلف جسابٍ وحساب، وهيهات أن يظفروا باللُّمَع!… حتّى غدا شاعرٌ خارجا على القانون! وهاك »الطّيب صالح« حاملا في بشرته سُمرة تربة الوطن، وفي عينيه صدق الإنسان مع ذاتِه ومع قرّائه، عبقريُّ الـرّواية….. العربيّة، الّذي صوّر وجع مجتمعه تصويرا حقيقيّا نقل عبره ملامح السّودان بوجعه وفرحه،على هزءٍ مريرٍ بآلآم الحياة وصعابها. »وقد أصدر باحثون من بيروت مؤلّفا حول رواياته بعنوان »الطّيب صالح عبقريّ الرّواية العربيّة« تناولوا فيه عالمه الرّوائي والأدبي بأبعاده وعمقه وتجديده«. وفي آخر رواق أصحاب القامات،تغلقُ الكاتبة نافذة مشرقيتها على مرسيّةٍ ٍلظلّ الشّاعر محمود درويش إبّان جلائه عن مرسح القصيدة العربيّة في الخامس من آب، العام ألفين وثمانية، يوم عبر حلم الرّجوع إلى فلسطينه الحبيبة بعدما كان يخبّئها في حقيبته، مع بزوغ فجر كلّ قصيدةٍ…
حقّا يا ماجدة داغر، مُباركةٌ باكورتكِ الأدبيّة؛ من دنِّ حقٍّ وخيرٍ وجمالٍ نرتشف اللّغةَ سُلاف فكرٍ! شكرا لسخائكِ وقد روّيتِ أديم الورق من نضح ريشتكِ حبرا نيّرا يستزيد منه العارف، ويرتوي منه الباحث والمبتدئ، من مَعين صافٍ سلسبيل… في زمن عكّرت محابر أيّامه التّرّهات والأنانيّات ومصالح نافلة المصدر والمآل… ألف شكرٍ ماجدة، أنّكِ تركتِ لقلمكِ أن ينطلق طائرا في سماء الكلمة النّضرة، بجناحين من فكرٍ متوقّدٍ وخيالٍ مبدعٍ صافٍ،سيكون لحلّه وترحاله بين أيدينا وتحت مرامي العيون،هتاف إبناء الضّاد: باللّه عليكِ، أترعينا من خمرتكِ بالمزيد، ودعينا نغتذي من شهيات الأرغفة بالعديد.