أيام بيروت!!
بقلم: صالح القلاب
النشرة الدولية –
دائماً وباستمرار أتذكَّر القائد اللبناني محسن إبراهيم الذي كان بدأ قوميّاً وناصريّاً وانتهى يساريّاً لكنّه لم ينسَ عروبته ولم يتخلَّ عن مساندته للثورة الفلسطينية حتى عندما تخلّى كثيرون عنها بعدما إنْ امتصوا ضرعها حتى النهاية وكان في المرحلة البيروتية وبعدها الأقرب إلى “أبوعمار” وإنه الصديق والرفيق للدكتور جورج حبش على أساس الزمالة الرفاقية في حركة القوميين العرب وهكذا فإنه لم ينسَ وعلى الإطلاق حتى نايف حواتمة بعد ابتعاده عن بعض رفاق الأمس ومغادرة الجبهة الشعبيّة وإنشاء الجبهة الديموقراطيّة التي غير متأكدٍ على وجه اليقين أنها لاتزال “قائمة” حتى الآن!!.
عندما عاد الشاعر الكبير والكفاءة الثقافيّة العالية محمود درويش من آخر رحلة للعلاج في إحدى الدول الأوروبية وذهبتُ إلى مطار “ماركا” الأردني لاستقباله مع العديد من الأصدقاء المستقبلين وجدّتُ محسن إبراهيم ينتظر وحيداً عودة صديقه الذي كان أقرب المقرّبين إليه في المرحلة البيروتية.. فذهبتُ إليه مسرعاً وأخذته إلى صفّ المنتظرين وكانت دهشتي ودهشة غيري أنه قد أجّهش بالبكاء عندما رأى صديقه الشاعر الكبير ينزل درجات “سلُّم” الطائرة بتأني وبتمايل وارتجاج.. وهكذا وبعد ما أمضى ليلة معنا كأصدقاء في المرحلة البيروتيّة، التي هي بالنسبة لي أجمل المراحل التي عشتها، غادرنا والدموع تطفح من عينيه.. وقال همّساً وهو يودّعنا: هل ياترى أنَّ محمود درويش سيبقى معنا.. وكما كنَّا في بيروت الغربية؟!.
إنَّ البعض من الذين لا يعرفون من بيروت إلاَّ ما كانوا يأتون لأجله ولو لليلة واحدة.. ولا يعرفون أنَّ العاصمة اللبنانية كانت في تلك المرحلة وقبل ذلك وإلى الآن مثابة الحركة القوميّة العربيّة وأنها منبت التنظيمات اليسارية وإنَّ بدايات الثورة الفلسطينية قد بدأت فيها وإنَّ خيرة المبدعين العرب قد تخرّجوا من جامعاتها التي أهمها الجامعة الأميركية وأنَّ صور الرئيس جمال عبدالناصر في ذروة تألقه القومي لم ترتفع حتى على أبنية القاهرة كما ارتفعت على أبنية وعلى جدران شوارع بيروت الغربية.
ثم وإنه لم يبقَ من بيروت هذه خلال حصارها من قبل القوات الإسرائيلية الغازية كمثابة صحافية كانت تجّمعنا صباحاً ومساءً وفي كل الأوقات إلاَّ “صحيفة السفير” التي كانت صحيفة عربيّة وقوميّة أكثر منها صحيفة لبنانية والتي بات “رفاقها” يتناقصون إلى أنْ وجدّتُ نفسي ومعي اثنان من رفاق هذه المسيرة العسيرة، أحدهما الرسام المبدع ناجي العلي الذي كاد الإسرائيليون الغزاة أن يلتقطوه وهو في طريقه من صيدا إلى بيروت والذي من المعروف أنه قد قتل “غيلةً” في أحد شوارع لندن الغربية!!
إنها فترة عندما ننظر إليها الآن وعن بُعْد نجد أنها أجمل مرحلة كان قد مرَّ بها رفاق تلك المسيرة العسيرة وأنَّ صحيفة “السفير” التي كانت إحدى إبداعات الأستاذ الكبير فعلاً طلال سلمان الذي في تلك الفترة العصيبة ولكنها جميلة قد تحوَّل من أهم وأكبر الكتَّاب والصحافيين إلى “طاهٍ” لنا في منزله المجاور وحقيقة أنَّ هذه هي عظمة الرجال المبدعين الذين لا يمكن معرفة حقائقهم إلا في الفترات التاريخية المريرة!!.