الفلسطينيون من وعد بلفور إلى حل الدولة الواحدة
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

لا يحمل وعد بلفور للفلسطينيين، والذي جاء في الثاني من كانون الثاني لعام 1917، ذكرى مؤلمة فقط، بل يراه الفلسطينيون أيضاً المؤسس للظلم التاريخي الذي وقع عليهم منذ أكثر من قرن من الزمان، وسبباً لمعاناتهم الممتدة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا. لم تنته معاناة الفلسطينيين بعد، رغم قبولهم بحل الدولتين، وتنازلهم عن 78%؜ من أرضهم، واعترافهم بإسرائيل، والذي تجسد جميعه بالتوقيع على إتفاق أوسلو عام 1993، ذلك الاتفاق كان يفترض أن يكون مدخلهم لتأسيس دولة فلسطينية، إلى جانب دولة إسرائيل. وبعد أكثر من ربع قرن على توقيع ذلك الاتفاق، فشلت مبادرة حل الدولتين، ولم تعد هناك معطيات تؤسس لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود عام 1967، وتصاعد الحديث عن خيار الدولة الواحدة، فما المقصود بالدولة الواحدة وما علاقتها بوعد بلفور؟

إختارت إسرائيل بعد استكمال احتلالها لباقي الأراضي الفلسطينية عام 1967، خيار حل الدولتين كسبيل للتعامل مع الفلسطينيين، أو سكان الأرض الأصليين، كما اضطر الفلسطينيون للقبول بذلك الحل رسمياً خلال ثمانينات القرن الماضي، بعد أن تأكدوا أن خيارهم بتحرير مجمل أرض فلسطين بات غير ممكن لأسباب تعلقت بتبدل موازين القوة على الأرض. وكشفت إسرائيل بوضوح عن معطيات حل الدولتين التي تنشدها مع الفلسطينيين في إطار مفاوضاتها لتوقيع إتفاق كامب ديفيد عام 1978، والذي يعطي حكماً ذاتياً للفلسطينيين على أراضيهم المحتلة عام 1967، وشكل الأساس لمعظم مبادراتها اللاحقة. وترفض إسرائيل فكرة الدولة الواحدة حتى وإن جاءت ضمن الإطار الذي وضعه وعد بلفور، لأن مجرد تساوي عدد الفلسطينيين واليهود في تلك الدولة يقوض فكرة يهودية الدولة، التي وضعتها الحركة الصهيونية، وقامت إسرائيل على أساسها.

روجت إسرائيل لحل الدولتين وسعت لتحقيقه مع الفلسطينيين ضمن معطيات محددة، تضمن لها تحقيق أهدافها التي وضعتها الحركة الصهيونية مبكراً. اختارت الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل تركيز استعمارها ومفاوضاتها مع بريطانيا للحصول على المنطقة الغربية الساحلية من فلسطين، لأهميتها الاستراتيجية، وليس انطلاقاً من ادعاءاتها الدينية أو التاريخية، والتي ترتكز في الأساس على المناطق الجبلية الوعرة وسط وشرق فلسطين. وبعد أن استكملت إسرائيل احتلالها لباقي المناطق الفلسطينية عام 1967، والتي تدعي قدسيتها الدينية لها وارتباطها التاريخي بها، راعت تنفيذ مخططاتها الاستيطانية المكثفة للسيطرة على أكبر مساحة من الأرض وتغيير تركيبتها الديمغرافية بتكثيف نقل المستوطنين اليهود اليها. وبدأت إسرائيل بالبحث عن حل من شأنه أن يجنبها المواجهة المباشرة والواسعة مع المقاومة الفلسطينية للاحتلال داخل الأراضي المحتلة وخارجها، والانتقاد الدولي على أدائها كقوة احتلال، فكان حل الدولتين وفق معطياتها هو المخرج الأمثل، الذي يضمن لها مكاسب الاحتلال، دون تحمل تبعاته.

واليوم، مستغلة معطيات عملية سلام واتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، ومستغلة لعامل الوقت الذي شارف على الثلاثة عقود، وفي ظل حماية أميركية أوروبية تحتضن مشروعها السلمي، نجحت إسرائيل بنقل ما يقارب من مليون يهودي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، مغيرة الطبيعة الديمغرافية فيها، فتخطى عدد اليهود عدد الفلسطينيين في الجانب الشرقي من مدينة القدس، بعد أن زاد عددهم عن 350 الف يهودي، متفوقين في ذلك على عدد الفلسطينين فيه لأول مرة في التاريخ. وفي الضفة الغربية، تخطى عدد اليهود في المنطقة المصنفة “ج”، والتي تشكل ثلثي مساحة الضفة الغربية، حوالي 650 ألف مستوطن يهودي، متجاوزين بذلك عدد الفلسطينيين في تلك المنطقة بكثير. وارتباطا بتحقيق أهدافها، لا تعد تلك التحولات مفاجئة، الا أن سرعة تحقيقها، وتحديداً خلال عهد العملية السلمية أثار الانتباه والشك، فخلال ثمانينات القرن الماضي كان عدد المستوطنين اليهود في الضفة والقدس 100 ألف مستوطن، ثم إرتفع ذلك العدد خلال عام 2000 إلى 350 ألف مستوطن، وبات يقترب عددهم من المليون اليوم.

وتنسجم تلك التطورات على الأرض مع مطالبات إسرائيل المتدرجة بضم المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 اليها، اذ بدأ أيهود باراك بالمطالبة بضم 9٪؜ فقط منها، وتحدثت صفقة القرن التي وضعت بالتنسيق مع بنيامين نتنياهو عن ضمن 30٪؜ منها، بينما وصلت في عهد نفتالي بينت، وتصريحات وزيرة العدل الحالية اياليت شاكيد إلى ضم منطقة “ج” كاملة. ويصبح الأمر أكثر وضوحاً اذا اقترن ذلك كله بفكرة الدولة اليهودية، او الحفاظ على الأغلبية اليهودية لدولة إسرائيل، اذ تسعى إسرائيل لضمان السيطرة على أكبر مساحة من الأرض التي تضم أقل عدد من الفلسطينيين، كما تفعل حالياً في القدس الشرقية ومنطقة “ج”. ويضمن حل الدولتين لإسرائيل وبقاء علاقتها بالفلسطينيين وفق معطيات إتفاق أوسلو، التي تسمح لهم بحكم ذاتي ضمن نطاق المناطق المكتظة بالسكان، وتكدس معظم الفلسطينيين في نطاق منطقة تشكل أقل من ثلث الضفة الغربية، وتحديداً في نطاق المنطقة المصنفة “أ” وبدرجة أقل في منطقة “ب”، بقاء تحكم إسرائيل الأمني بالاراضي الفلسطينية وسيطرتها على مواردها الطبيعية ومصادر المياة، فيها وتبعيتها الاقتصادية، بحكم واقع قوة احتلال فعلي على الأرض، والذي يسلب الفلسطينيين السيادة الحقيقية فوق أرضهم، وينبؤ بعدم نية إسرائيل السماح ببناء دولة فلسطينية كاملة السيادة يوماً ما. إن كل تلك المعطيات تفسر مخاوف عدد من المهتمين من إمكانية لجوء إسرائيل إلى اجبار الفلسطينيين على الرحيل من وطنهم في يوم من الأيام، استكمالاً لهذه الخطة.

من الطبيعي أن يفكر الفلسطينون بخيارات أخرى غير حل الدولتين، الذي أثبتت الأيام بأنه لم يكن الا مجرد خدعة إسرائيلية للاستيلاء على مجمل أرض فلسطين، بعد تفريغها من سكانها الأصليين. ومن هنا بدأت الأصوات تعلو بحل الدولة الواحدة. والحقيقة أن حل الدولة الواحدة نوعان، الأول يقصد به الدولة الفلسطينية ذات السيادة على مجمل أرض فلسطين، والتي تأتي في أعقاب هزيمة الحركة الصهيونية أو إسرائيل من بعدها. وقد جاءت مقاربة حل الدولة الواحدة في إطار ما طرحه البريطانيون في الكتاب الأبيض عام 1939، في ظل الثورة الكبرى وارهاصات إنخراطهم في الحرب العالمية الثانية، ورغبتهم في كسب العرب خلال تلك الفترة، وعادوا وتراجعوا عن تلك المقاربة بعد انتهاء الحرب. كما جاءت مقاربة الدولة الواحدة تلك أيضاً في الطرح الفلسطيني الذي جاء خلال عهد الانتداب بداية، ثم خلال ستينيات القرن الماضي من قبل منظمة التحرير وفصائلها، التي اعتبرت أن قيام دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية، سيأتي بعد هزيمة إسرائيل، ويمكن أن تضم المسلمين والمسيحين واليهود أيضاً، سواء كانوا يهود فلسطين فقط كما في الحالة الأولى، أو جميع اليهود المتواجدين في فلسطين، بما فيهم المستوطنين الأجانب كما في الحالة الثانية.

وأما عن النوع الثاني من حل الدولة الواحدة، والذي بات يطرح بعد قبول منظمة التحرير بحل الدولتين، فيعتمد في الأساس على أن تكون إسرائيل هي هذه الدولة، وأن ينخرط الفلسطينيون تحت مظلتها، إما في ظل دولة ديمقراطية علمانية يتساوى مواطنيها دون أي اعتبار عرقي أو ديني، أو في ظل دولة ثنائية القومية، يعيش فيها الفلسطينيون إلى جانب اليهود، بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم. وفي الحالتين، يعد هذا النموذج استسلام فلسطيني وقبول برواية إسرائيل التاريخية أو الدينية على حساب ما نؤمن ونناضل من أجله وإقرار صريح بالهزيمة، هذا إذا افترضنا أن إسرائيل ستقبل به. وترفض إسرائيل رفضاً تاماً فكرة حل الدولة الواحدة، ضمن المعطيات الحالية، والتي تقوض فكرة الدولة اليهودية. الا أن ذلك لن يكون الحال، إن نجحت إسرائيل في تغيير التركيبة الديمغرافية في فلسطين في المستقبل، إذ أن وجود أقلية فلسطينية في البلاد لن يغير من هذه الفكرة.

إن انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية والقدس الشرقية، تطبيقاً لحل الدولتين يتطلب تبدلاً أيديولوجياً إسرائيلياً حقيقياً، وهو أمر غير مرئي في المدى المنظور. كما أن حل الدولة الواحدة على أساس قومي، والذي يؤمن بفكرة النضال لتحصيل الحقوق المدنية والدينية والسياسية لاذابة النظام الصهيوني في إسرائيل وفضح ممارساته العنصرية بحق الفلسطينيين، أسوة بما حققه السكان الأصليين في جنوب أفريقيا في تسعينات القرن الماضي، يوصلنا إلى ما جاء في نص إعلان بلفور الذي دعا لتأسيس دولة لليهود في فلسطين مع مراعاة الحقوق المدنية والدينية لسكان البلاد من غير اليهود، وهو ما يرفضه كثير من الفلسطينيين، لأن القضية الفلسطينية بالنسبة لهم قضية وطن في الأساس، كما أن مقاربة الدولة الواحدة ثنائية القومية تعتمد لانجاحها على أساس غير منطقي، فإسرائيل تمارس سياسة الفصل والتميز العنصري منذ عقود ضد الفلسطينيين ليس فقط في المناطق المحتلة عام 1967 وانما أيضاً في الأراضي المحتلة عام 1948، دون رادع أو مانع، وليس هناك أي مؤشرات لانحلالها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى