واختلط الكاتب والكاذب
بقلم: حافظ البرغوثي
النشرة الدولية –
بتنا نشتاق الى سنوات الرقابة الرسمية على الصحافة لأن ازدهار الصحافة الإلكترونية غير الورقية جعل الأمر صعبا على الكتاب الملتزمين بالحقائق، ولن يستطيعوا مواكبة الفيض من الأكاذيب والافتراءات والإسفاف على المواقع والصفحات الإلكترونية، فيكفي ان تنشر نبأ كاذبا فيه نميمة حتى ينتشر بسرعة لأن طبيعة الإنسان تحبذ النميمة والقدح، وهيهات إن تم تكذيب الخبر أن تجد من يصدقه او ينشره.
في زمن الصحافة المكتوبة، أي الورقية، كان الكاتب أو الصحفي يلتزم بنواميس الكتابة والنشر لأن هناك قوانين تنظم النشر ويمكن لمن طاله خبر كاذب ان يلجأ إلى القضاء لمحاسبة الكاتب والناشر معا.
أما الآن فلا قيود عبر الشبكات الأخطبوطية أو العنكبوتية، ولا يمكن مساءلة من يكذب أو ينشر الافتراءات قانونيا إلا ما ندر.
وبالتالي، طوال خدمتي في الصحافة لم تطلني أي قضية سوى غضب بعض أجهزة المخابرات على مواقف سياسية ولم أجد نفسي قط متهما أمام القضاء على قضية نشر أو كتابة، لأننا تتلمذنا على تحري الدقة.
كان الراحل الأستاذ محمد مساعد الصالح الذي عملنا تحت رئاسته في بداياتنا في ”الوطن“ الكويتية يؤكد لطاقم التحرير انتقدوا بموضوعية ولا تتجاوزوا المحرمات الشخصية والوطنية والقومية.
وكان الراحل ياسر عرفات يوصينا دوما ككتاب بعدم المس بأغلب الأنظمة العربية ويقول الأردن ومصر هما جناحان لفلسطين ومن بعده جاء الرئيس أبو مازن فأوصى بعدم المس بأي دولة عربية مهما كان الأمر.
الآن عاد الوضع إلى الخلف مهنيا لأن فيض الإعلام الرقمي لم يترك للمهنيين مكانا، فكل إنسان صار كاتبا ينشر على المواقع والصفحات شعرا ليس فيه شعر بل شعير، ونثرا ليست فيه لغة بل شخير، وعبثا ليس فيه مضمون بل صفير.
أذكر هنا أن كاتبا لبنانيا شهيرا رحمه الله كان يستعد لإصدار مجلة أسبوعية من لندن وطلب من العبد الفقير لله مقالا أسبوعيا وكنت وقتها في زيارة إلى لندن وبعد أن دعاني إلى الغداء ذهبنا إلى مكتبه وفتح غرفة ونادى السكرتيرة وقال لها أطلبي قهوة للأخ حافظ ودعيه يكتب بهدوء، لكنه استدرك: أرى من واجبي تنبيهك أننا نخطط للتوزيع في أقطار المغرب العربي فهي سوق واعدة للقراء، فخذ هذا في اعتبارك، وكذلك فإننا لسنا بحاجة للدخول في النزاع البعثي العراقي السوري، ولا حاجة لنا بالخوض في الخلافات الفصائلية الفلسطينية، أما دول الخليج العربي فهي السوق الإعلانية والقراء ثم أغلق الباب ومضى.
وجاءت القهوة واعتصرت أفكاري لعلي أجد موضوعا للكتابة فلم أفلح وسط هذه المحاذير، فخرجت وناديت على السكرتيرة وسألتها ”انظري إلى وجهي هل أنا قبيح! فقالت بالعكس أنت وسيم وبتجنن“، كنت في الثانية والثلاثين من العمر وقتها“، فقلت لها إذاً سأفقأ عيني وأكتب أنني أعور طالما لا أستطيع أن أكتب ولو موضوعا بهذه المحاذير.