المواجهة مع “حزب الله” قدر لا بدّ منه
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

في جلسة “تقييم سياسي” ضمّت مجموعة من الكتّاب والمفكرين والإعلاميين مع أحد سفراء لبنان في أوروبا، أشار أحد المشاركين إلى أنّ العمل جار على قدم وساق في لبنان للحيلولة دون إجراء الانتخابات النيابية، معدّداً الأسباب التي تدفعه الى مثل هذا الاعتقاد. هذا الكلام لم يفاجئ الحضور، فهذا سيناريو مطروح، بقوة في لبنان، منذ مدّة، ولكن ما استرعى الانتباه امتقاع لون السفير، وقوله، في نبرة تفضح إحباطه: “إذا صحّ هذا، فسوف تنبذنا حتى تلك الدول التي لا تزال تصرّ على التفاعل الإيجابي معنا”.

قبل التعليق الذي أطلقه هذا السفير اللبناني، كان الحاضرون مثلهم مثل كثيرين يظنّون أنّ تشديد المجتمع الدولي على وجوب إجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري “مجرّد حكي”، ولكن بعد هذا التعليق تلمّسوا أنّ هناك إنذارات دولية رسمية تبلّغتها الدوائر اللبنانية المعنية.

وهذه الوضعية تُذكّر بتلك الوضعية التي سبقت التمديد للرئيس السابق إميل لحود، إذ إنّ الدوائر الدولية كانت تحذّر أصحاب القرار في لبنان، آنذاك، من أنّ منع حصول انتخابات رئاسية نزيهة وشفّافة وحرّة، سوف يجر على التركيبة السلطوية اللبنانية – السورية الويلات، ولكنّ الرئيس السوري بشّار الأسد الذي كان يُمسك بزمام الأمور، استخفّ بهذه التحذيرات وفرض، بالتهديد والوعيد، إرادته “التمديدية”، فكان القرار الدولي 1559 الذي عبّدت دماء الرئيس رفيق الحريري طريق تنفيذ الشقّ السوري.

إنّ نهج بشّار الأسد وتابعيه اللبنانيين لم يتغيّر مع الانسحاب السوري و”تفكيك” جزء من المنظومة التي كان يعتمدها قناعاً لاحتلاله، فالاستخفاف بلبنان ومصالحه كجزء من المجتمع الدولي لا يزال “سيّد الموقف”، لأنّ هناك أولويتين تتقدّمان على أيّ همّ آخر: إبقاء لبنان “متراساً” إقليمياً متقدّماً لمصلحة “محور الممانعة”، بالنسبة لـ”حزب الله”، و”أنا ومن بعدي الطوفان”، بالنسبة للطبقة السياسية التي يستخدمها هذا الحزب في مشروع “استتباع” لبنان.

وهذا النهج كان قد أودى بلبنان واللبنانيين الى الجحيم، وهو نفسه الذي يحول دون إخراجهم منه.

وعليه، فإنّ التحدّي الذي يفرض نفسه على اللبنانيين هو امتلاكهم ما يكفي من العزم والإرادة للدفع في اتجاه تغيير هذا النهج، بدل بذل طاقاتهم وجهدهم من أجل رعاية هؤلاء الذين يتم استخدامهم كأدوات في “عمليات تجميلية”.

وقد تكون الإجراءات الأخيرة التي اتّخذتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة والكويت والبحرين، والإنذارات التي أصدرتها دول خليجية وعربية وأوروبية وأميركية، مناسبة، ولو مكلفة ومؤلمة، للدفع في اتجاه تغيير “النهج التدميري”.

لقد دفع اللبنانيون أثماناً باهظة في “بازار” شراء الأوهام: تحت لافتات “الحرص على الاستقرار والاقتصاد الوطني والمالية العامة” جرى السماح لـ”حزب الله” بالتحكّم بالقرار واستباحة الدستور وتهميش الدولة، فكانت النتيجة أن تزعزع الاستقرار وتهدّم الاقتصاد وأفلست المالية العامة والخاصة وسقطت الدولة وجاع الشعب.

وعلى الرغم من هذه النتائج المرعبة، ثمّة من لا يخجل من الدعوة إلى محاولة “تجربة المجرَّب”.

قد يكون صحيحاً أنّه، في فترة ما، كان لدى اللبنانيين ما يخشون عليه من الدخول في مواجهة سياسية مع نهج “حزب الله”، ولكن هذه الخشية تلاشت، حالياً، في حمأة انهيار شامل أتى على ما تبقى من علاقات مع “مجلس التعاون الخليجي” الذي تؤكّد فرنسا “المتهاونة مع حزب الله” قبل غيرها، أنّ الإنقاذ، من دون التعاون معه، مستحيل.

ويدرك جميع المسؤولين اللبنانيين، في أيّ موقع كانوا، أنّ إنقاذ لبنان ومواطنيه مرتبط بتغيير نهج “حزب الله”، وما قاله وزير الخارجية الفرنسية، أوّل من أمس، لا يخرج عن هذا الإطار، إذ لفت الى حاجة لبنان الى “الاعتماد على جميع حلفائه الإقليميين لدعمه في طريق تطبيق الإصلاحات”، ممهّداً لذلك، بتأكيده “الأهمية الخاصة لفصل لبنان عن الأزمات الإقليمية”.

وحده “حزب الله” يحول دون تحقيق مستلزمات الإنقاذ هذه، لأنّه مصرّ ـ أو مضطر ـ لأن يكون لاعباً أساسياً في “الأزمات الإقليمية”، بما يتوافق مع “الأجندة” الإيرانية.

ووفق ما تُظهره التطوّرات، فإنّ “حزب الله” ليس في وارد تقديم أدنى تنازل “طوعي”، لتتمكّن البلاد من أن تُصلح أحوالها، بل هو يُمعن في شدّها الى الوراء، مستّراً سلوكه بأدبيات مثيرة للسخرية، كقول النائب حسن فضل الله، أمس، وفيما الجميع يعرف أنّ “حزبه” أدخل الحكومة في “غيبوبة” بهدف “تلعيبها” وظيفة غير دستورية هدفها “قلْع” المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار: “على الحكومة أن تقوم بدورها وأعمالها، وألّا يوقفوا البلد لأنّ هناك من اتّخذ قراراً في الخارج بتوقيفه(…) فمن يريد أن يزعل فليزعل، ولكن يجب أن لا يتجمّد البلد”.

إنّ إخراج لبنان من هذا المأزق، وقد وصلت أحواله الى ما وصلت إليه، لن يُحقّقه الخارج الذي، في أحسن أحواله، إذا لم يُمسك اللبنانيون بمصيرهم، يمكنه أن يفصل نفسه عن بلاد الأرز ويتركها تتلظّى في جحيمها، كما لن تحقّقه هذه النوعية من الطبقة الحاكمة إلّا إذا تعرّضت مصالحها الضيّقة للخطر، وهذا يستدعي عملاً شعبياً قويّاً، قد يكون تنشيط الشارع، من جهة، والاستعداد للمشاركة “التغييرية” في الانتخابات النيابية، ولا سيّما في فئة المغتربين المتحرّرين من “ضغوط العيش” وما تستلزمه، في كثير من الأحيان، من “استتباع”، من جهة ثانية، أبرز أدواته.

وفي هذه الحال، فإنّ كلفة نسف الانتخابات النيابية، على الطبقة الحاكمة، سوف تكون أكبر بكثير ممّا ستكون عليه إذا لم يلمس الخارج المطلوب منه دعم الداخل لتغيير النهج المشكو منه، قوة قادرة على إحداث تغيير حقيقي في البنية السياسية.

ولا يمكن الاستخفاف بربط الدينامية الداخلية بالقرارات الدولية، وليس أدلّ على مدى الترابط بينها، سوى العقوبات الأميركية الأخيرة التي استهدفت، على خلفية ملفات الفساد، كلاً من النائب جميل السيّد، صاحب الثروة المشبوهة، والمتعهّدين داني خوري وجهاد العرب، “المدلّلَين سياسياً”.

ويلفت متحرّكون في الكواليس إلى أنّ هذه الدفعة من العقوبات، وما سوف يليها، إنّما أملاها الزخم الذي سبق أن أبداه المجتمع المدني الذي تابع عدداً كبيراً من الملفات، جرى التحقّق من بعضها ويجري التحقّق من بعضها الآخر.

إنّ أكثر من إشارة صدرت في لبنان عن أكثر من مسؤول وزعيم سياسي ومرجعيات روحية ووطنية، في الأيّام القليلة الماضية، تبيّن أنّ الاستياء من نهج “حزب الله” آخذ في التوسّع وبدأ يصل الى مستويات لم يكن أحد يفكّر فيها سابقاً، وهذا يعني أن الأرضية باتت مهيّأة لتزخيم سياسي وشعبي، من أجل تحصين هذه “المكتسبات” ونقلها من “الآنية” الى “الدائمة”، لأنّ وحده “العناد في الحق” يمكنه أن يخلق توازناً مع قدرات “حزب الله” التي هي، وقبل أيّ شيء آخر، قدرات “ترهيبية”.

ولا يهدف هذا التصدّي السلمي الذي بات “قدراً لا بد منه” إلى خدمة أيّ “أجندة إقليمية”، بل إلى إحداث كوّة في الجدار السميك إنقاذاً للبنان من نهج “حزب الله” الذي أدخله، رغماً عنه ومن دون أيّ اعتبار لقدراته وإمكاناته ومصالحه، في دوّامة صراع المحاور الإقليمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button