»المتعلمة«.. الذّات السّاردة بين الممكن واللا ممكن
النشرة الدولية –
الرأي – د. عزيزة الطائي (كاتبة وباحثة من عُمان)
في هذه المراجعة سأحاول تسليط الضّوء على كتاب جدير بالتناول، ليس لأنّه حاز جائزة أفضل مذكرات في عام 2018 بطبعته الأجنبية، وحظي باهتمام القرّاء بعد ترجمته إلى لغات عدة؛ بل لأنّه يتعمق في سبر حميمة الذّات السّاردة وتشظيها، وعلاقتها بتفاصيل الواقع المعيش، ومواجهة ما يدور حولها بوعي من خلال حضور «الأنا» كقيمة فنية عبر مسار تطور الأحداث وتجذرها، من أجل إيجاد فسحة للتّصالح مع معطيات الحياة، وكيفية تجاوز الصّعوبات لرؤية العالم بعدسة أرحب.
كتاب «المتعلمة» لتارا ويستوفر، الذي ترجمه إلى العربية خالد جبيلي (دار مدارك، الرياض، 2020)، سيرة ذاتية قائمة على المواءمة بين المرجعية التّاريخية المتمركزة حول «الذات»، ومنظور”الآخر». وقد نقله إلى العربية خالد جبيلي. ونرى في أطروحاته إحدى السّير الحديثة التي تمازجت بنيتها بين تقنيات السّرد الروائي من حبكة وزمان ومكان وشخوص، وبين ما تتطلبه خصائص السّيرة الذاتية من اعتراف وإخبار وتقديم الشهادات والوثائق، وذلك دون اللجوء إلى الصّمت المريب. كاشفةً عن أحداث حصلت، وأشخاص عبروا الحياة، وحوارات وتساؤلات مكّنت الشخ?ية الرئيسة من الشّعور بالرّفض والتّمرد على الواقع الخارجي؛ بتركيز السّرد على الإخبار، وهذا ما يراه جورج ماي عند التركيز على الوظيفة الإخبارية المتمركزة خارج حدود الذّات، فهو يؤكد أهميتها في «إخبار المرء عمّا شاهد أو سمع، وإخبار عمّا أتى أو قال».
فشعور الذّات بكيانها من البديهيات؛ وكلّما ازداد الإنسان وعيّا ازدادت حاجته إلى التّفرد لتحقيق غاياته؛ بل إنّ الكاتبة تكشف عن حقيقة مؤلمة، هي كيفية الكشف عن تحقيق كيانها المستقل والتصالح معه وسط محيط جاهل نبذَ تقبل الانفتاح على العالم الخارجي، واكتفى بأسلوب بدائي للحصول على متطلبات الحياة. وهو ما حدا بالشخصية إلى البحث عن زاوية للتحرر من الحياة المغلقة لأسرتها.
منذ العنوان «المتعلمة» (Educated) تسبر الكاتبة إشكاليات الذّات مع نفسها أولًا، ومع المحيط من حولها ثانيا، بالتعمق في قضايا البيئة لإبراز الخط الفاصل بين الخفي والظاهر، المحظور والمسموح في تركيبة حياة الأوروبي التي لا نرى منها -نحن الشرقيون- إلّا ظاهرها. ولعل أبرز ما في هذه الحكايات، هو تجسيد قدرة الإنسان على تجاوز التّحديات التي تفرضها البيئة المحيطة بما تحمله من أعراف وعادات وريثة المعتقدات.
يقع الكتاب في خمسمائة وأربعين صفحة، يُستفتح بمقدمة قصيرة مقننة للمترجم؛ لتبدأ الصفحات بتنويه من المؤلفة: «لا تتناول هذه القصة الطّائفة المورمونية، ولا تتعرض أيضا إلى شكل من أشكال المعتقدات الدينية، فهي تضم شخصيات من خلفيات متعددة». كما تؤكد أنّ الأسماء التي تطلقها، أسماء مستعارة؛ وهذا أمر مكّنها أثناء السرد من الاستناد إلى التّقنيات الروائية من خلال تجسيد حكايات الشّخوص وعوالمها. ثم جاءت كلمة استهلالية تستحضر فيها المؤلفة تحوّل حياتها، وتستشرف ذكرياتها من حافة عربة قطار مهجورة بجانب الحظيرة، مستعيدة أحاديث?أسرتها.
وجاء الكتاب في ثلاثة أجزاء غير معنونة، كلّ جزء تتخلله فصول مؤطرة بعنوان خاص لكل منها، يخدم المرحلة التي ارتأت الكاتبة المولودة في عام 1986، الكشف عن طبيعتها وقضاياها.
الجزء الأول يتكون من ستة عشر فصلًا، وفيه ركّزت الكاتبة على حياتها الأسرية منذ طفولتها، وحتى إدراكها معنى الحياة. واصفة كل فرد من أفراد الأسرة وطبيعته وقدراته، ماضية بالقارئ حيث الحياة المهمشة التي فرضها والد مهيمن يعاني من مرض «ثنائي القطب»، وطبيعة الأم المسالمة؛ مما أودى بهم العيش في سقف معزول، وحياة بسيطة ومعقدة في آن.
وفي الجزء الثاني، الذي يتألف من ثلاثة عشر فصلا، تبين المؤلفة معتقدات الطائفة المورونية، وهي معتقدات أشبه بالقداس للحفاظ على الموروث الثّقافي البعيد كلّ البعد عن المتعة والحرية التي يتطلع إليها الإنسان العصري. فكل شيء محظور أمام تطور الحياة وانفتاحها؛ خاصة عندما تقارب هذه المعتقدات قضية حياة الأنثى. وركّزت الكاتبة على شغفها منذ الصغر بالتعلم، والدور الذي مارسه إخوتها الكبار من تحفيز وتشجيع لاستكمال تعليمها الثانوي؛ وصولا بمغادرتهما «أيدياهو» للتخلص من طبيعة الأب وجبروته.
أما الجزء الثالث، فيتألف من أحد عشر فصلا، وفيه تبرز الكاتبة مسار التّحديات التي واجهتها، وهي في طريقها للبحث والتعلم، وسلسلة الأحداث التي تخلصت فيها من قيود أسرتها حتى وصولها إلى درجة الدكتوراه. ويبدو في الفصل الأخير الذي عنونته بـ«المتعلمة»، خلاصة التّجارب التي عززت من تخطيها الصّعاب، والتّمرد على أبويها لأجل تحقيق الذّات في البحث عن العلم.
إنّ أهمية هذا الكتاب تعيدنا إلى تلك الشّخصية غير المسالمة والمشحونة برؤى الحياة، في سبيل خلخلة القيم المتوارثة مع نسيج السّياق الثّقافي؛ كأنثى مؤمنة بقدراتها جاهدت لأجل الوصول حيث الحلم؛ متحررة من عاصفة قيود الضّوابط المفروضة، وتجاوز حدود التّربية والبيئة إلى حياة أفضل ترقى بها.
ولعل أبرز ما نستفيد منه: كيف يستطيع الإنسان إعادة بناء رؤيته للحياة بحلية جديدة تحكمها علاقة داخلية ممثلة بتصالح الذّات المتشظية مع نفسها، وأخرى خارجية بتفاعلها مع المحيط من حولها بما هو معرفي وإنساني ووجودي لتتسق هذه الرؤية مع تحديات الحياة. وأن الانتصار الحقيقي يحتاج إلى صبر وعزيمة ومجاهدة؛ كي توظف عقلك وطموحك ورؤيتك. وأخيراً، إنّها سيرة مبهرة مدهشة ملهمة تعيننا على استلهام حكاية الإرادة التي تأبى أنُ تُهزم.