ما بين العملاق الآسيوي الأعظم والبلد المشرقي الأصغر أكثر من حرير وطريق
بقلم: نوال الأشقر
النشرة الدولية –
في لبنان المنكوب ماليًّا ومعيشيًّا، لا مكان لأيّ احتفاليّة من أيّ نوع كانت. لكن الأزمة الراهنة لا تلغي مكانة بلدنا التاريخية والإستراتيجية والجغرافية في الخريطة العالمية، وبالتالي في الحسابات الدولية، وكذلك العلاقات الدبلوماسية التي جمعت بلد الـ 10452 كم² مربع بسائر البلدان، بما فيها الدول العظمى التي تتنافس على عرش زعامة العالم. إحدى تلك الدول هي الصين، التي تحتفل ولبنان بمرور خمسين عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما في تشرين الثاني من العام 1971.
لم تنضم الصين إلى حرب المعسكرات اللبنانية، ولم تصطف مع هذا الفريق اللبناني ضد ذاك، وإن كان بعضهم في الداخل اللبناني حاول مؤخرًا الإيحاء بذلك، من خلال طرحه معادلة ما سُمّي بـ “التوجه شرقًا” ليكون ذلك بمواجهة العقوبات الأميركية أو ما تسميه قوى الممانعة بالحصار الغربي، لترد الصين على طريقتها، بأنّ استثمار الشركات الصينية في البنى التحتية في لبنان، أو في أي بلد آخر، لا يخضع إلّا لمعيار واحد، قائم على الحوكمة الرشيدة. هذا ما قاله السفير الصيني العام الماضي في لقاء جمعه مع عدد من النواب، بحيث وجّهوا له سؤالًا عن أسباب عدم مبادرة الصين لبناء مشاريع في لبنان كسكة الحديد، فأجابهم بسؤال “هل قامت الحكومة اللبنانية بإعداد دراسات لمشاريع، وعرضتها في مناقصات دوليّة شفافة، وتمنعّت الشركات الصينية عن المشاركة”؟. إذن بعض التفكير اللبناني الضيق ليس في حسابات الدولة التي تحتل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لا بل الصين نفسها هي أكبر مصدّر للولايات المتحدة الأميركية، ومشاريعها الإستثمارية في بلدان متعددة.
لبنان والصين يوبيل ذهبي وعلاقات متينة
بمناسبة اليوبيل الذهبي للعلاقات الصينية اللبنانية، يشير الخبير الإقتصادي والأكاديمي البروفسور بيار الخوري إلى أنّه رغم التأخر في إعلان تأسيس العلاقات اللبنانية الصينية حتى العام 1971، فإنّ خمسين عامًا من العلاقات الودّية جمعت البلدين، ولم تشوبها أيّ مشاكل دبلوماسية، كما لم يُسجّل أيّ سوء تفاهم بين الدولتين. وهذا بحدّ ذاته مؤشرٌ كبير على احتمالات تطوّر هذه العلاقة في المستقبل.
أضاف الخوري في حديث لـ “لبنان 24” على رغم الإستقطاب الحاد الذي عاشه الشعب اللبناني منذ السبعينات، بقيت الصين بالنسبة للشعب اللبناني خارج هذا الاستقطاب تمامًا. كما أنّ اللبنانيين يظهرون دائما مشاعر الود والصداقة تجاه الحكومة والشعب الصينيين، والتطور الهائل الذي شهدته الصين على الصعد كافة هو دائمًا محطّ تقدير واسترشاد لدى اللبنانيين.
أمّا تعبير “التوجه شرقًا” وفق مقاربة الخوري فليس جزءًا من الأدبيات الصينية تجاه لبنان “بل هو تعبير محلّي لبناني، أُطلق كشعار سياسي مكمّل للاستقطاب الحاصل في لبنان. ومستخدموه لا يقصدون الصين حصرًا، بل مجموعة من الدول منها إيران وروسيا. كما أنّ الصين تتعامل دائمًا مع لبنان بصفته دولة عضو في الأمم المتحدة، تجمعها به صداقة قديمة. كما لا ترغب بالحلول مكان الدول والمصالح الغربية في لبنان، لكنّها تريد أن يكون لها حق الإستثمار في هذا البلد. بالتالي بين هذه المقاربة والتوجّه شرقًا هناك فرق شاسع، ولنتذكر أن الصين تتمتع بعلاقات اقتصادية كبيرة في كافة دول الشرق الأوسط، ووقعت اتفاقيات تفاهم حول طريق الحرير، ضمن مبادرة الحزام والطريق مع معظم هذه الدول، دون أن يعني ذلك أن هذه الدول قد “توجّهت شرقا”، بل هي من الحلفاء المخلصين للولايات المتحدة الأمريكية.
أيّ تأثير لموقع لبنان الجغرافي والإستراتيجي في الإهتمامات الخارجية للصين، كونه يقع عند نقطة التلاقي بين طريق الحرير البري والبحري؟ وكيف يمكن للبنان أن يستفيد اقتصاديًا من مبادرة “الحزام والطريق” ومن السوق الصيني؟ خصوصًا أن الحكومتين الصينية واللبنانية وقعتا عام 2017 مذكرة تفاهم، في شأن دفع بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الـ21 .
وفق مقاربة البروفسور الخوري، هناك القليل مما يمكن أن تقدّمه دولة صغيرة كلبنان لدولة عملاقة كالصين “ولكن أبعد من المنحى الإقتصادي، ينظر الصينيون إلى لبنان بصفته قيمة ثقافية،خصوصًا أنّ الشعب الصيني يحب التعرف إلى الثقافات الأخرى، وهو اليوم من أكبر الشعوب الممارسة للسياسة في العالم نسبة لعدد السكان. ووجود لبنان على تقاطع طريق الحرير البرّية والبحريّة يمنحه ميزة استراتيجية، وجب على المسؤولين التفكير في كيفية الإستفادة منها، وإعادة توظيفها في استراتيجية كاملة، بغية إيجاد دور اقتصادي ريادي للبلد،خصوصًا أنّ البدائل موجودة في المشاريع الكبرى، وهذا ما حصل من خلال تجاوز عقدة أفغانستان البرية”.
رغم قدرات الصين في الناحية الإستثمارية، لم تُترجم عروض الشركات الصينية للاستثمار في البنُى التحتية في لبنان، خصوصًا في قطاعات الكهرباء والماء والإتصالات والخدمات. والأسباب ،وفق الخوري، تعود لغياب استراتيجية لبنانية للاستثمار وإعادة النهوض بالبلاد، بسبب الإستقطاب السياسي الحاد، وربما لأنّ هناك اطرافًا لا تريد أن تقوم بخطوات، تنطوي على مخاطرة قد تؤثر على موقعها السياسي. وبطبيعة الحال الولايات المتحدة قد لا تكون مرتاحة وهي ترى الصين تتمدّد استثماريًّا في لبنان، لكنها ليست مرتاحة لذلك أيضا في كل من مصر وتركيا والإمارات والكويت والعراق والسعودية وحتّى اسرائيل، ولكن ذلك لم يمنع هذه الدول من إستثمارات كبيرة مع العملاق الصيني.
“الدور الصيني تجاه لبنان يتسم بالإيجابية، كما أنّ الصين على استعداد دائم لتقديم المساعدات الممكنة والتي يقبلها الجانب اللبناني في أزمته الراهنة، علمًا أنّها لم تبخل بذلك خلال الأزمات التي واجهها لبنان، في السياق نشير إلى المساعدات الصينية للبنان خلال جائحة كورونا والتقديمات الصحية في مجالات متعدّده، فضلًا عن جهودها السخيّة بإعادة بناء الكونسرفاتوار الوطني بتكلفة تكاد تقارب الـ 100 مليون دولار”.
يبقى أن نساعد أنفسنا لنتيح بذلك لصين وغيرها من الدول، أن تساهم في انتشالنا من محنتنا، وأن نستثمر في ميزات لبنان الكثيرة حجرًا وبشرًا، لاستعادة دوره على ساحل المتوسط، كنقطة تلاقي بين الشرق والغرب، بدل الإصطفافات المدمّرة يمينًا ويسارًا. فالإستثمار يحتاج بيئة آمنة ماليًا سياسيًا وأمنيًا.