هل تعود الحرب مرة أخرى للبلقان بسبب الانفصاليين الصرب؟

النشرة الدولية –

تقف دولة البوسنة والهرسك الواقعة في منطقة البلقان على حافة أزمةٍ حذّر المحللون من أنها ستكون الأخطر منذ نهاية حرب البوسنة والهرسك في عام 1995، التي قُتل فيها آلاف من البشر وارتُكبت خلالها أعمال تطهير عرقي بشعة بحق المسلمين البوسنيين. فما الذي يحصل الآن؟

1- ماذا يحدث بالبوسنة والهرسك؟

حذر الممثل السامي للمجتمع الدولي في سراييفو، كريستيان شميت، في وقت سابق هذا الأسبوع من أن اتفاقية السلام التي وُقعت في نهاية الحرب بوساطة أمريكية تواجه خطر الانهيار إذا لم تُتَّخذ إجراءات لوقف ضغوط الانفصاليين الصرب الرامية للانفصال.

إذ إن الزعيم الصربي ميلوراد دوديك، أحد أعضاء المجلس الرئاسي للبوسنة والهرسك المكون من ثلاثة أشخاص، هدّد مراراً بالانفصال عن بقية البلاد، التي كانت منذ الحرب تتألف من منطقتي حكم ذاتي مرتبطتين بحكومة مركزية. لكنه هذه المرة يضيف مزيداً من التفاصيل عن طريق سن تشريع يمكن أن يؤدي إلى انفصال جمهورية صرب البوسنة عن المؤسسات المشتركة للدولة، مثل القوات المسلحة والهيئات القضائية.

وأبلغ الممثل السامي شميت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: “هذا مُعادلٌ للانفصال بدون الإعلان”. وكان مجلس الأمن اجتمع هذا الأسبوع لإعادة تفويض قوة الاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك (EUFOR) الباقية في البلاد منذ أمد طويل.

وفي بلد أدت الانقسامات العرقية داخله بين الصرب والبوسنة والكروات إلى جرائم حرب ارتُكبت في العصر الحديث، يبدو هذا المستوى من التوتر مثيراً لارتباك المراقبين، كما تقول شبكة CNN الأمريكية.

وقال إسماعيل صديق، رئيس المنظمة المستقلة غير الحكومية Bosnian Advocacy Center، التي تدعو إلى أن تكون البوسنة والهرسك دولة حرة ديمقراطية علمانية ذات سيادة: “لا شك أن هذه هي أخطر أزمة منذ عام 1995، وأنها يمكن أن تؤدي إلى حرب أخرى”.

2- لماذا تحدث هذه التوترات الآن؟

استمرت التوترات الطائفية بين المجتمعات منذ نهاية الحرب ومنذ توقيع اتفاقية دايتون بوساطة أمريكية. وأنهت الاتفاقية حرباً استمرت لثلاثة أعوام ونصف عن طريق تقسيم الدولة على طول الخطوط العرقية، إلى جمهورية الصرب والاتحاد البوسني الكرواتي، الذي يتشارك فيه البوسنة والكروات. وترتبط المنطقتان بمجلس رئاسي مكون من ثلاثة أشخاص، ومبعوثين دوليين، وحكومة مركزية.

ولا يقبل جميع الصرب حقيقة جرائم الحرب التي ارتكبوها خلال حرب البوسنة والهرسك. أحد هؤلاء هو دوديك، الذي انزعج على وجه الخصوص من تشريع جديد سُنّ مؤخراً عن طريق مكتب المفوض السامي، وهو تشريع يمكن أن يُعاقَب بموجبه بالسجن أيُ شخصٍ ينكر الإبادة الجماعية التي ارتُكبت.

وقد تحدث عن هذا القانون في وقت سابق من هذا العام، قائلاً: “إن هذا مسمار في نعش البوسنة… لا تملك جمهورية صرب البوسنة خياراً آخر إلا الشروع في الحلّ”.

3- إلى أي مدى يمكن أن تسوء الأمور في البوسنة والهرسك؟

يخشى المراقبون من أنه حتى إذا لم يتخذ دوديك خطوات نحو الانفصال، فيمكن أن تتسبب أفعاله في زعزعة استقرار البلاد على نحو خطير، والتسبب في اندلاع العنف والهجرة القسرية والبؤس المدقع للأشخاص العاديين.

قالت أرمينكا هيليتش، السياسية البريطانية المولودة في البوسنة وعضو مجلس اللوردات البريطاني والمستشارة الخاصة السابقة لوزير الخارجية البريطاني: “المواطنون في أنحاء البوسنة والهرسك -بمن فيهم الموجودون في كيان جمهورية صرب البوسنة- يخشون العنف. أي خطوة أبعد نحو الانفصال سوف تؤدي على الأرجح إلى ردة فعل. ليس هناك طريقة يمكن أن تؤدي إلى جعل انفصال البوسنة والهرسك يحدث في سلام”.

وتحذر هيذر ستاف، المستشارة في منظمة RAMP Project المتخصصة في سياسات الهجرة، من أن “الصراع العنيف سوف يؤدي إلى أزمة لاجئين وأناس نازحين، فقد شهدنا في التسعينيات (في القرن الماضي) وفي العقد الأول من القرن الحالي فرار أشخاص من البوسنة إلى البلاد المجاورة، مثل الجبل الأسود”.

وتقول إن هذه منطقةٌ “كانت البيانات حولها أحياناً قاسية فيما يتعلق بمعاملة طالبي اللجوء… فكيف يمكن أن يُعامل هؤلاء الذين يفرون إلى الدول المجاورة”.

4- كيف تنظر أوروبا لتصاعد أخطار هذه الأزمة؟

تقول CNN إنه يمكن استشعار أثر هذه الأزمة خارج حدود البوسنة والهرسك. وقال جاسمين موجانوفيتش، مؤلف كتاب Hunger and Fury: The Crisis of Democracy in the Balkans (الجوع والغضب: أزمة الديمقراطية في البلقان)، إنها قد تكون “كارثة للاتحاد الأوروبي والمجتمع الأطلسي الأوسع، نظراً إلى أنها ستكون أزمة أمنية أخرى في جنوب شرق أوروبا المتقلب للغاية فعلياً”. وأشار إلى أنه في ظل الأزمات الأمنية الموجودة فعلياً في أوكرانيا وبيلاروسيا وسوريا وأفغانستان، فإن حدوث “تدهور كبير في أمن واستقرار البوسنة هو شيء لا يمكن تحمله من جانب الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة”.

ومثلما هو الحال غالباً في المجال الجيوسياسي، فإن أي رعشة جفن لدى الغرب تقدم فرصة لخصومه، مثل روسيا والصين. في حديثٍ مع شبكة CNN، عبر مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي عن مخاوف الغرب من الطريقة التي يمكن استغلال الموقف بها.

إذ قال: “إننا عالقون بين مطرقة وسندان. لا يستطيع المجتمع الدولي التضحية بالصرب، بينما يدفعهم هم وصربيا أكثر وأكثر نحو أحضان روسيا. لكن البلقان تقع عند عتبة الاتحاد الأوروبي. والنفوذ الروسي المتزايد في المنطقة يعطيهم موطئ قدم ومنبراً للنفوذ، وذلك إذا أرادوا زعزعة الأمور أكثر من ذلك”.

5- من الذي يتحمل اللوم؟

يتقبل كثيرون في الغرب سراً حقيقة أنهم فشلوا بدرجة كبيرة في اتخاذ خطوات، وبأن الأمر ربما قد تأخر الآن. أعربت مصادر عديدة في الاتحاد الأوروبي وفي حلف الناتو وفي المجتمع الدبلوماسي الأوروبي الأوسع عن الندم من إخفاق الغرب التاريخي في فرض عقوبات أو التحرك ضد الأشخاص الذين يذكون نيران الفتنة في البوسنة والهرسك.

قالت أرمينكا: “دوديك وجماعته من الانفصاليين ومنكرو الإبادة الجماعية جرى استرضاؤهم باستمرار على مدى 15 عاماً عن طريق المجتمع الدولي. كان يتحدث عن الانفصال ويتحرك نحوه منذ عام 2006”.

وقال موجانوفيتش إنه بينما تعد صربيا وروسيا “المُدبرتين الرئيسيتين لهذه الأزمة”، فإنه يعتقد أن “رفض المجتمع الدولي -ولا سيما دول حلف الناتو- للتحرك بحسمٍ من أجل القضاء على هذا الأمر في مهده منذ سنوات” تَسبب في تجرؤ دوديك ومؤيديه. وأشار موجانوفيتش تحديداً إلى الاتحاد الأوروبي، الذي قال عنه إنه “مخيب للآمال بشدة” بسبب خلافه الداخلي الذي جعل الكتلة في هذه المرحلة وبطرق عديدة “طرفاً غير فاعل”.

6- ما الذي يمكن فعله لتدارك الوصول لحرب جديدة؟

يقول صديق: “لدى المجتمع الدولي ولاية واضحة لحماية السلام في البوسنة. أي تصعيد بالعنف في البوسنة يمكن أن يؤذيهم بشدة لأنهم لا يستطيعون تحمل صراع تدعمه روسيا، ويتشابك مع المصالح الصينية والمصالح الأخرى، عند حدود الناتو”.

ولكن هل سيفعل الغرب أي شيء؟ قال مسؤول في الناتو لشبكة CNN: “نحث روسيا على أن تضطلع بدور بناء في غرب البلقان. نرى روسيا باستمرار تفعل العكس. يعمل الناتو على تعزيز الاستقرار والأمن والتعاون في المنطقة. أي تدخل خارجي في العمليات الديمقراطية المحلية هو أمر غير مقبول”.

من الواضح أن الناتو لن يتحرك إلا بأوامر من الدول الأعضاء، وليس هناك أي مؤشرات على حدوث أي شيء في أي وقت قريب بخلاف محض كلمات صارمة.

قال المسؤول الكبير لدى الاتحاد الأوروبي إن هناك إرادة سياسية بين بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لفعل شيء أكثر أهمية، لكنه اعترف بأنه سيكون صعباً للغاية اجتماع جميع الأعضاء الـ 27 على الطاولة بدون تقديم تنازلات كبيرة لدول الكتلة فيما يتعلق بالقضايا الأخرى.

لا يستطيع مجلس الأمن التحرك بدون روسيا، التي صوتت في وقت سابق من هذا الأسبوع على الإبقاء على قوة حفظ السلام في البوسنة والهرسك فقط إذا رُفع اسم المفوض السامي من نص القرار، وهو ما يقوض موثوقية ذلك المكتب.

7- تركيا تكثف جهودها الدبلوماسية لاحتواء الأزمة، فهل تنجح؟

في السياق، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده تُعد “الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة في البوسنة والهرسك مجدداً”، كتلك التي شهدتها البلاد قبل اتفاقية دايتون المبرمة عام 1995، وذلك في وقت تواجه فيه البوسنة خطراً محتملاً للتفكك.

وفي كلمة له خلال لقائه ممثلي منظمات مدنية للبوشناق في تركيا، الأحد 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، قال أردوغان إن “تركيا لطالما قدمت الدعم من أجل استقرار البوسنة والهرسك عبر الحفاظ على البنية الثقافية والإثنية المتعددة لهذا البلد، ودون تمييز بين مكوناته”.

وأضاف الرئيس التركي: “لا نريد أبداً أن تتحول البوسنة والهرسك إلى ساحة نفوذ وتنافس للأطراف التي لديها حسابات بشأن هذه المنطقة”، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن بلاده كثّفت من جهودها الدبلوماسية عقب التوترات الأخيرة، وقال: “مهما يفعل الآخرون سنواصل احتضان الصرب والكروات والأرناؤوط والمقدونيين إلى جانب أشقائنا البوشناق”.

كذلك بيّن أردوغان أنه ناقش مع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش في 18 أيلول/سبتمبر 2021 في إسطنبول التطورات في المنطقة، ولفت إلى التقائه برئيس مجلس الشعوب البوسني (الغرفة الثانية للبرلمان) بكر عزت بيغوفيتش، الأربعاء 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 وبحث معه سبل احتواء التوتر القائم في البلاد.

وبحسب أردوغان، من المقرر أن تدعو تركيا قريباً مسؤولين من البوسنة والهرسك للقاء في أنقرة، بمن فيهم الزعيم الصربي ميلوراد دوديك، إلى جانب شفيق جعفروفيتش ممثل البوشناق وزليكو كومسيك ممثل الكروات في المجلس.

8- هل يتحرك الغرب لفرض عقوبات على الانفصاليين الصرب؟

في الوقت نفسه، لا تزال هناك أسباب أخرى تدعو للأمل. يقول جاسمين موجانوفيتش لـCNN إن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يمكنها “تفعيل العقوبات الأحادية ضد” دوديك وحاشيته، وهو شيء يعتقد أنه سيحمل بعض التأثير.

لكن الدبلوماسية لم تنجح في تسعينيات القرن الماضي، ولا يعتقد صديق أنها ستنجح الآن. إذ قال: “النهج الدبلوماسي الفاشل نتج عنه هلاك أكثر من 100 ألف شخص، وأكثر من مليون لاجئ”.

فيما قالت أرمينكا إن النهج الأشد يمكن أن يكون فرض العقوبات، مصحوباً بالتعامل مع تحركات الانفصاليين على أنها “تحد أمني أوروبي”. وأضافت: “علينا دحر هذا. وكلما فعلنا ذلك في وقت أقرب، كان أفضل وأيسر. لا نريد الانتظار لسنوات مثلما فعلنا في تسعينيات القرن الماضي”.

يصعب استشراف تحسن الموقف في البوسنة والهرسك في المستقبل القريب. بيد أن الإرادة السياسية الكافية والفاعلين المؤثرين يمكنهم أن يحولوا دون الانزلاق مرة أخرى في أوحال العنف.

ويدور السؤال المطروح حول ما إذا كانت الدول الغربية مشتتة بما يكفي لإيلاء الاهتمام الكافي إلى دولة ليست على رأس قائمة أولوياتها في الوقت الراهن، وحتى إذا كانوا عازمين على التصرف، فسوف يتعلق السؤال بما لو أنهم ربما يعتقدون أن الوقت قد فات على ذلك التحرك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button