ملف “الإخوان” يعود إلى الساحة في واشنطن
القوانين الأميركية حيال الإرهاب دقيقة وتشترط وجود أدلة مادية على ارتكاب جرائم عملية
النشرة الدولية –
فتح دوي القنبلة التي فجرها السيناتور تيد كروز في واشنطن حول سياسة سرية لإدارة جو بايدن تجاه “الإخوان” ومصر، ملف العلاقات الأميركية – الإخوانية على مصراعيه من جديد. إذ إن عضو مجلس الشيوخ من ولاية تكساس، وهو كان مرشحاً جمهورياً سابقاً للرئاسة مزاحماً للرئيس السابق دونالد ترمب، وبتأييد من عدد من زملائه، اتهم إدارة الرئيس بايدن بحجب 130 مليون دولار كمساعدة أميركية لمصر لمساندة حملاتها ضد الإرهاب. وفي خلال هجوم كروز على الإدارة لمحاولة تمريرها الصفقة من وراء ظهر الكونغرس، أعلن أنه وزملاء له يعزمون على إعادة طرح مشروع قانون وضع تنظيم “الإخوان” على لائحة الإرهاب مما فتح الملف سياسياً من جديد في العاصمة الأميركية، وقد يبقى مفتوحاً حتى الانتخابات التشريعية العام المقبل، وربما حتى إلى الانتخابات الرئاسية في 2024، إذا تعقد الملف وسقط في بحر الأجندات الانتخابية المتصارعة.
انتفاضة كروز
السيناتور تيد كروز، ذو الأصول اللاتينية، هو من كبار قادة الحزب الجمهوري، ومن بين أكثر المواجهين لما يصفه بـ”التهديد الإسلاماوي التكفيري” الذي يستهدف أميركا مع حلفائها المسلمين في آن واحد. وقد تقدم كروز وعدد كبير من أعضاء الكونغرس بأكثر من مشروع لوضع الجماعة على لائحة الإرهاب خلال العقد المنصرم. إلا أن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما قد تصدت بحزم لهذه المشاريع التشريعية منذ 2009، وذلك بسبب قرارها بإقامة الشراكة مع “القوى الإسلاماوية” في المنطقة أكانت “الإخوان” أو إيران. فسقطت مبادرات كروز ولوي غوميرت ودياز بالارت وغيرهم مراراً وتكراراً، حتى عند سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب ولاحقاً مجلس الشيوخ، بسبب فيتو أوباما.
ومع انتخاب ترمب ظن الناس أنه سيضع “الإخوان” على اللائحة، لا سيما وأنه تمتع بأكثرية في مجلسي الكونغرس من 2017 إلى بداية 2019. إلا أن قوة اللوبي الإخواني “خردقت” واشنطن بشكل منع الإدراج، وذلك خلال ذروة قوة الجمهوريين و”قصف” اللوبيان الإيراني والإخواني إدارة ترمب بغزارة، وتحالفا مع أقصى اليسار لمشاغلة البيت الأبيض، الذي كان يصارع التحقيق الروسي على مدة ثلاث سنوات. وتمكنت هذه الضغوطات من تجميد وضع الجماعة على اللائحة على الرغم من توفر الأكثريات النيابية. وكان كروز قد “انشغل” بأولويتين، الأولى هي الدفاع عن رئاسة ترمب وقد تراكم الأخصام ضدها، والثانية كانت الانسحاب من الاتفاق الإيراني. فنجح ترمب بالانسحاب من الاتفاق، ولكنه لم يتمكن من إدراج الإخوان على اللائحة. واستمرت الكتلة المناوئة لنفوذ “الإسلاماويين” في الكونغرس بالضغط، ولكن من دون نتيجة تذكر. إذ أثبت اللوبي الإخواني قدرته على منع إدراج الجماعة على اللائحة، حتى تحت ظل إدارة جمهورية. ومع عودة فريق أوباما عبر إدارة بايدن في بداية العام، بات مطلب توصيف “الإخوان” بعبارة الإرهاب “رسمياً”، غير متوفر حالياً، إن لم نقل مستحيلة قبل 2023.
من هنا جاءت تحركات السيناتور كروز والنائب دياز بالار ومجموعة من المشرعين لردع الإدارة عن إعادة تعويم “الإخوان” عبر صفقات ضغط على حلفاء واشنطن في المنطقة لإعادة إشراكهم في السلطة، أو إنهاء الضغط عليهم. لذا انتقد كروز ضغط الإدارة على مصر لإطلاق سراح المحكوم عليهم “لقاء الإذن بالحصول على 130 مليون دولار” كان قد صوت الكونغرس عليها كتمويل للحملة ضد الإرهاب. وأعلن كروز ودياز بالار أنهما سيتقدمان بمشروع جديد للإدراج، علماً أنه لن يحصل على الأعداد المطلوبة.
سر قوة لوبي “الإخوان”
كما كتبنا مراراً، قوة اللوبي الإخواني متعددة الجذور، وهو يختلف عن تكوين وقدرة اللوبيات العربية أو الإسلامية الأخرى. الشبكة الإخوانية تمددت في أميركا خلال الحرب الباردة “كحليف” ضد السوفيات وشريك للعرب المحافظين وصديق للدفاع الأميركي ضد الشيوعيين. فدخلوا الإعلام ومراكز الأبحاث منذ عقود. وتوصلوا بذكاء إلى أن يستفيدوا من الخليج أميركياً. كل ذلك قبل دخول قطر على الخط بعقود. من هنا يأتي عمق الجذور للجماعة في الولايات المتحدة. فهي تقريباً من عمر اللوبي الإسرائيلي، وقد أصبح لها تأثير داخل الجسم التربوي والإداري وحتى حلقات السياسة الخارجية لأجيال. ويستهزئ بعض العرب “بثقلهم” في السياسة الأميركية، وقد لا يدركون أن “الإخوان” خرقوا العمق الأميركي بمالهم وتأثيرهم وتمثيلهم لعقود، فخلقوا هيكلية انقلبت على الدول العربية المعتدلة داخل الجسم السياسي الأميركي، منذ 1997، وتجسدت بما يسمى في “الربيع العربي” منذ 2011. القوة الحقيقية للجماعة في أميركا أنهم صقلوا النظرة الأكاديمية والدبلوماسية والسياسية للمنطقة داخل العقل السياسي الأميركي. ومن ثم استعملوا قدرات الخليج وبخاصة قطر. أما أقوى حصيلة حصدوها فهي بفرض نفسهم كممثلين عن أي شيء “إسلامي” داخل الولايات المتحدة، بما فيه الزعم بأن “الإخوان المسلمين يمثلون المسلمين!” وصدقت أميركا- المؤسسات والإعلام هذه المعادلة، مما وضع واشنطن في موقع مصادم مع أي طرف واجه “الإخوان” داخل وخارج البلاد.
الأزمة الإخوانية داخل أميركا
ربما يظن بعض العرب أن الكتلة الأميركية التي تدفع بمشروع “الإدراج على اللوائح” تقوم بذلك بسبب ما قامت به الجماعة في مصر أو ليبيا أو سوريا أو اليمن أو السودان أو في دول أخرى. إلا أن الواقع داخل واشنطن غير ذلك. فالأسباب التي دفعت بالكتلة المضادة لـ”الإخوان”، وفيها من المحافظين وبعض الليبراليين، الغضب على الجماعة هو ما قامت به ضد الولايات المتحدة، لا سيما فيما يتعلق بالأمن القومي، والمسائل السيادية والملفات المتعلقة بالوحدة الوطنية.
هذه الأوساط في الدفاع والاستخبارات والكونغرس تحمل “الإخوان” وأجهزتهم الإعلامية، مسؤولية تعبئة “المتطرفين الإسلاماويين” ضد أميركا منذ التسعينيات، لا سيما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حيث شوهوا صورة أميركا في الخارج والعالمين العربي والإسلامي. وقد تصاعد الغضب لدى هذه الأطراف وانتشر في الكونغرس على مدى أعوام. وقد حمل البعض الجماعة مسؤولية التعبئة النفسية ضد العسكريين في المنطقة، مما أدى إلى سقوط خسائر. وحمل البعض الآخر الماكينة الإخوانية مسؤولية نشر التطرف داخل أميركا، مع ما أدى ذلك إلى نشر الراديكالية المسؤولة عن عنف إرهابي ضرب البلاد على مدى سنين.
كما تصاعد التنديد بدور “الإسلاماويين” داخل الولايات المتحدة لزعزعة الموقف السيادي، حيت شاركت الجماعة عبر هيئات تمثلها عملياً في حملات لإضعاف الدفاع الأميركي عن الأراضي القومية، وإلغاء وزارة الأمن الوطني، ومحو كل المواد التعليمية المعلقة بالعقائد التكفيرية ومهاجمة البنتاغون و”FBI” و”CIA” و”NSA” في حملة مركزة وممولة تبدو وكأنها تستهدف قدرة الاستعداد القومي لمجابهة الإرهاب التكفيري، أكان “القاعدة” أو “داعش”. وقد أفصحت ملفات العمليات الإرهابية داخل أميركا على مدى عقدين، أن مجموعة من المنفذين إما كانوا أعضاء أو كانت لهم علاقة بمجموعات مرتبطة بـ”الإخوان”.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير، فكانت الحرب الضروس التي شنتها “القوى الإخوانية” داخل أميركا على كل من يساعد البلاد على فهم الخطر “الإرهابي التكفيري”، أو أعضاء كونغرس يصدرون تشريعات، أو خبراء يقدمون شهاداتهم في الكونغرس، أو أكاديميين ينشرون أبحاثاً عن الأجندات “الإسلاماوية”، أو قادة رأي، أو عسكريين، أو طلاب، أو قيادات طوائف مشرقية، أو قساوسة، وصولاً إلى ناشطين مسلمين معتدلين لا يشاطرون الأجندة الإخوانية. ووصلت الهيئات التي تسيطر عليها الجماعة إلى شن حملات عنيفة ضد الرؤساء، كبوش وترمب ووزراء، ونواب في جهد بات يرى وكأنه حرب سياسية إعلامية لمناصرة الحرب الميدانية في الشرق الأوسط. هذا من دون ذكر الحملات التي شنتها قوى “الإخوان” على السعودية ومصر والإمارات وليبيا وإسرائيل وفرنسا، وهم جميعاً حلفاء لواشنطن.
الإدراج لأسباب قومية
في الخلاصة، الكتلة الأميركية الكبيرة التي تدعم اتخاذ إجراءات بحق هذا التيار، ليس لأن بعض الدول الخارجية تطالبها بذلك، بل لأسباب الأمن القومي الأميركي. ولكن القوانين الأميركية حيال الإرهاب دقيقة وتشترط وجود أدلة مادية على ارتكاب جرائم عملية. وما لم يعلن مجلس الأمن القومي وجود تيار يحارب أميركا من الداخل استراتيجياً، فالإدراج المبني على قوانين العقوبات وحدها لن يكون سهلاً. ولكن الظروف السياسية قد تتغير مع الوقت… لنرى.