من الديمقراطية الانتخابية إلى السلطوية الانتخابية
بقلم: رفيق خوري
المثال الأميركي يتعرض في الداخل لكثير من التهميش والتهشيم
النشرة الدولية –
“أي مستقبل للديمقراطية الانتخابية؟”. سؤال كان من العبث طرحه في العقدين الأخيرين من القرن الـ20، حيث إرتفع مد “الموجة الثالثة” من الديمقراطية في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. أما في العقد الثاني من القرن الـ21، حيث تراجع المد الديمقراطي أمام ما سمي “إغراء السلطوية”، فإن السؤال فرض نفسه على أساتذة العلوم السياسية في الجامعات والباحثين في مراكز الدراسات وعناوين كتب كثيرة في أميركا وأوروبا. وهو كان مؤخراً موضوع نقاش عميق في “منتدى أصيلة” في المغرب الخارج مؤخراً من انتخابات صدمت الحزب الإسلامي الحاكم منذ سنوات بخسارة قاسية جداً. ومن حول المغرب أزمة انقطاع بين الديمقراطية والانتخابات في الجزائر. وأزمة ديمقراطية في تونس التي يبحث رئيسها قيس سعيد عن “ديمقراطية المجالس”. وأزمة الذهاب إلى ديمقراطية انتخابية قبل تأسيس دولة في ليبيا.
النقاش في “منتدى أصيلة” دار على أربع نقاط أساسية. النقطة الأولى هي بروز مشكلة “الديمقراطية الإنسيابية” أي التمثيل خارج الانتخابات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. والثانية هي دور العولمة في الإضرار بالديمقراطية الانتخابية لمصلحة الدول الاستبدادية والأقلية الممثلة بالاقتصاد والتجارة في الدول الديمقراطية. والثالثة أن أزمة الرأسمالية والغرب وجائحة كورونا والإخفاقات في توزيع اللقاحات، أعطت أفضلية للأنظمة السلطوية على الديمقراطية التي صارت “الصندوقراطية”. والرابعة أن تجربة الصين الناجحة في النمو الاقتصادي دفعت كثيرين إلى التخلي عن اعتبار الديمقراطية الانتخابية المدخل الإجباري إلى التنمية والتطور. وليس بعيداً من ذلك قول ياسشا مونك في كتاب “الشعب ضد الديمقراطية” إن “الشعبوية وحركات النخبة تخلق مزيجاً من الديمقراطية اللاليبرالية والليبرالية اللاديمقراطية”. ولا قول شيري بيرمان في كتاب “ديمقراطية وديكتاتورية في أوروبا” إن “تنامي لا شعبية الاتحاد الأوروبي أعطى ذخيرة للقومية والشعبوية اللتين تهددان الديمقراطية الليبرالية في أوروبا اليوم”.
وهكذا هو الوضع في المجر وبولندا وبيلاروسيا. أما في أميركا اللاتينية، فإن الرئيس نيكولاس مادورو يمارس الألعاب الانتخابية لضرب الديمقراطية، ويقود فنزويلا الغنية إلى أعمق أزمة اقتصادية دفعت ثلاثة ملايين مواطن إلى الهجرة. والرئيس دانيال أورتيغا الذي قاد الثورة ضد ديكتاتورية سوموزا في نيكارغوا أعلن قبل أن يكتمل فرز الأوراق في الصناديق انتخابه رئيساً للمرة الرابعة ومعه زوجته كنائبة للرئيس. وأما في آسيا، فإن الهند التي توصف عادة بأنها “أكبر ديمقراطية في العالم”، تنتقل تحت سلطة رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى “سلطوية انتخابية”، كما يرى كريستوفر جافريللو في كتاب “هند مودي: وطنية هندية وصعود ديمقراطية إثنيّة”. ومن جامعة جونز هوبكنز الأميركية يكتب ياشا ماونك في “فورين أفيرز” أن “قصة العقد الأخير ليست فقط ضعف الديمقراطية بل أيضاً قوة السلطوية. وما نراه في العالم هو انبعاث السلطوية أكثر مما هو تراجع الديمقراطية”.
وفي المقابل، فإن الرئيس الأميركي جو بايدن ينفذ واحداً من وعوده الانتخابية بالدعوة إلى “قمة الديمقراطيات”. لكن مشكلته أن المثال الديمقراطي الأميركي يتعرض في الداخل لكثير من التهميش والتهشيم بحيث يصعب عليه أن يلعب دور قائد الديمقراطيات. والأصعب هو أن ينسى أي قائد في القمة هجوم الغوغاء على الكونغرس بتحريض من الرئيس دونالد ترمب الخاسر، والمصر على الإدعاء بأن بايدن “سرق” منه النصر بالتزوير. وهذا لا يحدث إلا في البلدان المتخلفة.
ولا أحد يعرف إلى أي حد يستمر المد السلطوي. ولا شيء يوحي أن الانحسار في المد الديمقراطي على وشك الإنتهاء. غير أن التاريخ يعلّم الجميع كيف تقود الأنظمة الديمقراطية إلى أزمات تخرج منها بالديمقراطية، وكيف تنتهي الأنظمة السلطوية إلى أزمات تعجز عن الخروج منها باللعبة السلطوية. ألم يقل تشرشل “الديمقراطية هي أقل الأنظمة سوءاً؟”.