برامج “توك شو” عادة قديمة.. الإعلام المصري لا يقتنع… التوسع على حساب المحتوى كرّس تفوق منصات التواصل
النشرة الدولية –
لم يشعر مشاهدون لبرنامج “مصر الجديدة” الذي بدأ بثه الجمعة الماضي الذي يقدمه نقيب الصحافيين ضياء رشوان والإعلامية إنجي أنور على فضائية “إي.تي.سي” التي انطلقت قبل أيام بأنه صار هناك جديد أو أن البرنامج منبر مختلف دخل المنظومة ليصنع الفارق، لأن الجمهور لا يتعامل مع برامج “توك شو” بنفس الأهمية والشغف، بعكس ما كان يحدث في الماضي عندما عرف المجتمع هذه النوعية من القوالب الإعلامية على شاشة التلفزيون المصري.
وقتها كان برنامج “البيت بيتك” الوحيد تقريبا الذي ينتظره الجمهور كل ليلة بشغف، إذ يتطرق إلى العديد من القضايا والموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والترفيهية، وكان يوفر وجبة دسمة إعلاميا لكل الفئات مع السماح بهامش من الحرية مكنته من أن يحظى بمصداقية وتصل من خلاله رسائل الحكومة للناس.
وصار لكل قناة برنامج أو مجموعة من البرامج الحوارية الليلية والصباحية، لا يقل عددها، بل في تزايد مستمر، لقناعة القائمين على إدارة وملكية هذه المحطات أن مثل هذه المنابر تمثل بالنسبة إلى الجمهور أولوية في المتابعة، مع أن ثمة شواهد تشير إلى تراجع تأثير وجماهيرية البرامج التقليدية أمام تصاعد نفوذ المنصات الاجتماعية بشتى أنواعها.
تؤكد هذه الحالة أن الإعلام المصري يتعامل مع “توك شو” باعتباره من الثوابت التي لا يمكن أن تتغير مهما كان للعالم رأي آخر، فهناك العديد من وسائل الإعلام الدولية تتحدث عن تراجع دور البرامج الحوارية لهجرة الجمهور لها لحساب المنصات الرقمية، لكن في مصر لم تصل هذه الحقيقة بعد إلى القائمين على المنظومة برمتها.
وذكرت صحيفة التلغراف البريطانية في تقرير لها مؤخرا، أن نجوم “توك شو” سلالة تنقرض لأن نسب مشاهدتهم انخفضت والجمهور لم يعد لديه الوقت للجلوس ساعات أمام الشاشات، وأصبحت الأخبار العاجلة على الهواتف المحمولة هي البديل، ودور مقدمي البرامج يقل لصالح المراسلين المتخصصين، وشبكات التلفزيون بدأت تستعد لمرحلة ما بعد هذه البرامج.
لا تبدو هذه الهواجس مقنعة لرؤوس المنظومة الإعلامية في مصر، والمعضلة أن جميع البرامج الحوارية تدور في نفس الفلك، حيث يظهر المذيع على الجمهور ليناقش القضايا اليومية من وجهة نظره ويشرح ويحلل ويقيّم الموقف ويتنبأ بالمستقبل ويؤدي دور الضيف والباحث والمفكر مع المذيع، كأنه يفهم في كل شيء.
وإذا كان البرنامج أكثر تطورا يستعين بخبراء ومتخصصين في الملفات التي تتم مناقشتها، لكن المشكلة أن نفس القضايا تتم مناقشتها في أغلب البرامج الأخرى، حتى الضيوف أنفسهم قد لا يتغيرون، ويمكن لأي مشاهد أن يتابع برنامجا واحدا ليتعرف على ما دار في باقي البرامج، باعتبار أن جميعهم نسخة شبه مكررة.
يبدو التجديد الوحيد الذي بدأت تتطرق إليه بعض البرامج أنها صارت تخاطب أيضا جمهور المنصات الاجتماعية من خلال تجزئة فقرات البرنامج نفسه لدقائق قصيرة، ويتم نشرها على حساباتها الرسمية للوصول إلى الجمهور الذي هجر القناة وذهب إلى المنصات ليحصل منها على ما يريده من معلومات وتحليلات للأحداث المختلفة.
ويرى خبراء أنه لا مانع من استمرار برامج “توك شو”، لكن الإبقاء عليها بنفس الوتيرة والعقلية والمضمون يكرس قطيعة مع الإعلام. فالمشاهد نفسه تغير وصار يبحث عن كل جديد لمواكبة التطورات، وأن يتعصرن الجمهور وتبقى البرامج على وضعيتها القديمة، فهذا ينفي الجدوى المطلوبة.
وقال جلال نصار الخبير الإعلامي ورئيس تحرير “الأهرام ويكلي” سابقا، إن الإعلام المصري يرفض الاقتناع بأن “توك شو” عادة قديمة، فالناس لم تعد كما كانت يمكنها أن تجلس أمام مذيع يخطب فيها كإمام مسجد، ويقدم نفسه على أنه ضليع في كل الملفات ويحتكر الشاشة دون أن يقدم جديدا أو يوفر مادة إعلامية تهم المشاهد.
وأضاف لـ”العرب” أن الأزمة الحقيقية تكمن في كون غالبية البرامج المصرية مفصّلة على مقاس مذيعين بعينهم، مع أن الحقيقة تقتضي أن يتم تفصيل الوجوه الإعلامية وفق متطلبات المهنة على أن يكون هناك تجديد على فترات متقاربة لمواكبة المتغيرات في مجال الإعلام، لا أن تُكرس التقليدية لتتلاءم مع من يحتكرون العمل منذ سنوات.
ويتطلب تطوير الإعلام المصري ليواكب المستجدات تغيير الوجوه أولا، وبعد ذلك تكون هناك إعادة نظر في المحتوى لأن شريحة من المذيعين تستحوذ على الشاشات لديها قناعات بأن هذا هو الإعلام، ومهما تم إقناعها بأن العالم يتغير تسير عكسه.
وتكاد تختفي عند أغلب البرامج الحوارية ثقافة الاستقصاء والتحليل العميق للقضايا الملحة وتقديم المعلومات والنقد الموضوعي، وتجاهل مناقشة الملفات الجماهيرية مثل الصحة والتعليم وغيرهما، بينما تركز على الإثارة لمجرد أن تنافس المنصات الرقمية التي ذهب إليها الجمهور، حتى أصبح الناس لا يجدون أنفسهم على الشاشات.
ورأى جلال نصار أن نزول مقدمي “توك شو” إلى مستوى الشرائح البسيطة في المجتمع، سطّح الرسالة الإعلامية وأفقد البرامج قيمتها ودورها في أن تجذب الجمهور للأعلى، ومازالت المشكلة أن القائمين على إدارة المنظومة في مصر لا يعرفون بالضبط: ما المطلوب من الإعلام، وما دوره، لذلك يستمر الحال دون تغيير.
ثمة معضلة أخرى ترتبط بأن القائمين على البرامج الحوارية، مصممون على اختزال الأزمة في عدم وجود هامش من الحرية، ما يكرس بقاء المشكلة الراهنة، لأن الحرية أو التضييق لا يهم قطاعا كبيرا من الجمهور بقدر ما يعني هؤلاء أن تكون الرسالة الإعلامية صادقة وملائمة لواقعهم، فما قيمة استضافة معارضين لا يفيدون المشاهد لمجرد تجميل الصورة؟
يعتقد خبراء إعلام أن الحكومة تتحمل جزءا من المسؤولية لأنها تقريبا ملف وضع استراتيجية إعلامية تتناسب مع المستجدات في المهنة، ويصعب فصل هذا الإخفاق عن وجود ما يشبه مراكز قوى ترفض وجود سياسية إعلامية لأن إقرارها يعني إقصاء بعضهم، سواء أكان هؤلاء من المذيعين أم المسؤولين.
ويرتبط ضلوع الحكومة في تحمل المسؤولية بكونها صاحبة ملكية أغلب القنوات المصرية، ويفترض أن تبادر بوضع هذه السياسة أو على الأقل مواكبة المتغيرات العالمية في الخارطة البرامجية، لأن كل تأخير توازيه زيادة نفوذ وجماهيرية المنصات الرقمية، مقابل تهاوي شعبية “توك شو” الذي تعوّل عليه القنوات.
وقال محمد المرسي أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة لـ”العرب”، إن مصر بحاجة إلى معالجة إعلامية شاملة تواكب التطورات، فالمشكلة أبعد من البرامج الحوارية، لكنها مرتبطة بالمحتوى والتطابق بين المنابر حتى في وجهات النظر، والجمهور لم يعد بحاجة إلى إعلام النُصح والإرشاد، بل توفير مواد إعلامية جذابة تستقطبه من منصات التواصل، ليس بكم البرامج، لكن بمضمونها ومدى تطورها وفق متطلبات العصر.
ويقود تحول البرامج إلى نسخة مكررة من حيث الجمود والتقليدية والرتابة إلى إصابة الجمهور بالملل، وتزداد الأزمة تعقيدا عندما تغيب الموضوعية لتحل مكانها السطحية والنمطية، وهنا تنحدر نسب المشاهدة، ولا يجد الجمهور ما يجذبه ما يفرض على صانع القرار الإعلامي أن يتدخل لتصويب المسار قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة.