ميراي عبدالله شحاده… امرأة “بوهيميّة” ليست كباقي النّساء

النشرة الدولية –

بعد “يوم قرّرت أن أطير”، صدر للشاعرة، ميراي شحاده حداد، ديوانها الثاني بعنوان “بوهيميّة”، حاملاً لوغو المنتدى الثّقافي الذّي أسّسته تكريماً لروح والدها  شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده فيكون هو الإصدار السّابع من منتدى عبدالله شحاده. وتوّجت الديوان لوحة الغلاف بريشة الفنان التّشكيلي  الفراتي جمعة النّاشف وقدّم له الأديب/الشّاعر موريس وديع النّجار مستهلّاً كلمته بعبارة “غجريّةٌ و غزّارة”.

يتضمن الديوان ثلاثة فصول توزّعت على 158 صفحة من القياس 14سم * 22سم: الأوّل “على أوتار الحنين” يكتنز ثلاث وخمسين قصيدة نثريّة وجدانيّة؛ والثّاني “خواطر من دمي” والثّالث نصوص أدبيّة “شذرات من الماضي”.

 

 

 

“بوهيميّة”

وتقول شحاده في قصيدة “بوهيميّة”، التي حمل الديوان عنوانها:

“أنا امرأة يا صديقي/لم تتقن الطّهوَ كباقي النّساء/ولم تقتنِ الحِلى والثّياب/ولم تعرف يومًا علمَ الأبراج/والتّبرّجَ بالكحل وحمرةِ الشّفاه!/ولم تكترثْ لحلِّ/ألغازِ الفلكِ والحساب!/وما عندها شغفٌ في الطّبّ/أو هندسةِ البناء!”

“أنا امرأةٌ طلَّقَتْ منذ زمنٍ علومَ الفيزياء/وجعلَتْ من كوخِ ذكرياتِها/معجمَ اللّغاتِ وأسرارَ الكيمياء/فراحت تخلطُ النّبيذَ بالماء/تارةً تسكرُ وطورًا تهذي/وتحصي النّجومَ في السّماء!/… تنزع بتلاتِ الورود/ِ… تتساءلُ مع كلّ بتلة:/يُحبّني نعم، يُحبّني لا؟”

“أنا امرأةٌ يا صديقي/ما زالت تعيشُ هناك/بوهيميّةً تائهةً/في ربوعِ طفولتِها/وفي ربى سناك!/نعم في ربى هواك/فما أرادت السّفرَ بعيدًا عن لماك/ولا تنوي أن تُنجِزَ شيئًا/… أو تمتهنَ عملًا زهريّ اللّون/كباقي النّساء!/فلا يليقُ بها، حبيبي/سوى أن تكتبَ إليكَ الشّعر/صبحًا ومساء!”

 

غَجَرِيَّةٌ وغَزَّارَة!       

وجاء في مقدمة الأديب/الشاعر مُورِيس وَدِيع النَّجَّار للديوان، تحت عنوان “غَجَرِيَّةٌ وغَزَّارَة!”:

كما تَتَفَتَّقُ الكِمامُ النَّدِيَّةُ عن أَزْهارٍ بَسَماتِ صُبْحٍ، كذا تَفَتَّقَت يَراعَةُ مِيراي شحادة حَدَّاد عن مُفَلَّذاتٍ كَأَقاحِ المَرْجِ في هَيْجِ رَبِيعِهِ، وكَالأَلَقِ المُنداحِ في سُهُوبٍ عَشِيبَة.

إِنَّهُ دِيوانُها «بُوهِيمِيَّة»، فِيهِ بِشْرُ البُوهِيمِيَّةِ الحَسناءِ، وأَلوانُ بُرْدِها المُزَرْكَش، وتَرَجُّحُها بَينَ نَفْرَةٍ واستِكانَة.

وأَنتَ، قارِئًا، تَقضِي في رِحابِهِ أُوَيْقاتٍ رَخِيَّاتٍ، تَسحَرُكَ بِاللَّفْظِ المُنْتَقَى بِعِنايَةِ الإِحساسِ المُرْهَفِ، وبِالصُّوَرِ النَّابِضَةِ المَنثُورَةِ لِتَرسُمَ سَرِيرَةَ الإِنسانِ بِأَعماقِها وأَبعادِها، وتَسبِيكَ في خُمارِ ذِكرَياتٍ تُدفِئُ الصَّدْرَ وتُذْكِي الحَنايا.

وإِنَّ فِيهِ كِبْرًا لا يَخْفَى، ولَحْنًا حالِمًا يَسرِي خَدَرًا في الأَجفانِ، ويَغدُو، مَدَّ الدِّيباجَةِ الحَرِير، «كُثْبانًا مُغَنِّيَةً»([1]) تُرافِقُكَ كَالحُداءِ الهامِس.

وحَسْبُنا مِنهُ أَنَّهُ يَحجُبُ عَنَّا، لِآنٍ، «هَواءَ البَلادَةِ الَّذي يَهُبُّ على وُجُوهِنا»([2])، في «أَيَّامٍ نَحِسات»([3]).

فَإِلَيهِ بِالقَلبِ المَشُوْقِ، والقَلَمِ اللَّاهِف.

***

تَتَحَسَّسُ في كَلِمِ هذه الشَّاعِرَةِ رِفْعَةَ مَناقِبِها، فَعُصارَةُ تَعابِيرِها وتَراكِيبِها مِرآةٌ لِرُوحِها الكَبِيرَةِ. وما «عَلَّمَتها الحَياةُ»

هو وَشوَشَةُ قَلبٍ، كَأَنَّها صَلاة.

تَقُول:

«عَلَّمَتنِي الحَياةُ

أَن أُدمِنَ خَمْرَةَ رَبِيعِها مَهما عَرَّانِي خَرِيفُها وصَفَعَنِي شِتاؤُها!

أَن أَعصِرَ مِن أَلَقِ أَتراحِي أَفراحًا في مُقَلِ الآخَرِين…»

(مَقطُوعَة «عَلَّمَتنِي الحَياة»)

لقد نَذَرَت نَفسَها لِلقَلَمِ، فَهَل لَهُ أَنْ لا يَكُونَ وَفِيًّا، فَيَكسُو صَحائِفَها بِالخِصْبِ يَملَأُ البَياضَ يُمْنًا وسَخاء. وسَكَبَت عُمرَها الغالِيَ على الوَرَقِ فَانبَلَجَ نَيِّرًا «فَوقَ أَوراقِ العابِرِين».

ثُمَّ إِنَّ في كِيانِها حُبًّا لازَمَها، يَطوِيها في لَهَبِهِ، وهي تَطوِي عُمرَها «كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلكُتُبِ»([4])، فَتَتِيهُ «بُوهِيمِيَّةً» في «رُبُوعِ طُفُولَتِها» مع ذِكْرَى حَبِيبٍ تَأْبَى إِلَّا أَنْ تَكُنَّ جَواها في «رُبَى هَواهُ»، وتَكتُبَ الشِّعْرَ لِعَهْدِهِ الحَنُونِ الَّذي غَبَر.

نَعَمْ… لَطالَما حَقَّ في البَرايا أَنَّ الحُبَّ الأَوَّلَ يَبقَى مَحفُورًا على شَغافِ القَلبِ، يَعُودُهُ كُلَّما عاوَدَتهُ ذِكرَى الحَبِيبِ الَّذي كان.

وهل يَبقَى الإِنسانُ وَفِيًّا لِحُبِّهِ الأَوَّلِ أَو الأَخِير؟!

هَيهات!

شاعِرَةٌ هي، سَلِيمَةُ الطَّوِيَّةِ، رَقِيقَةُ الحَواشِي، على حِسٍّ مُرهَفٍ، فَإِنْ جَرَحَها الصَّدُّ «لا تُسامِحُ مَنْ سَحَرَ امرَأَةً بِهذا الرُّخامِ، وأَيقَظَ الوَجْدَ في حُمَمِها، وصَقَلَ الكَثِيرَ مِن كِبرِيائِها» (مَقطُوعَة «لَن أُسامِحَك»).

وكَيفَ لا تَنقِمُ من جُحُودِهِ، وها بَوْحُها: «كُلَّما تَنَسَّكتُ فِيكَ، زِدْتَنِي هَجْرًا»! (مَقطُوعَةُ «على جَبِينِ السَّحاب»).

فَرِفقًا بِالطَّوايا، يا شُعَراءَنا العاشِقِين!

أَوَلَيسَ «الكُـفْرُ مَخْبَثَـةٌ لِنَفْسِ المُنْعِـمِ»([5])؟!

ونَراها تَهُونُ أَمامَ زَهْوِ الحَبِيبِ المُتَدَلِّلِ، فَلا تَتَوَرَّعُ عَن خَوَرِها، وتَشكُو هَمَّها: «أَنا أَهواهُ يا أُمِّي، وأَهوَى التُّرابَ تَحتَ قَدَمَيِه». ونَحنُ نَعِي ضَناها حِينَما نَذكُرُ فارِسَ الشُّعَراءِ وشاعِرَ الفُرسانِ، عَنتَرَة، يَقُول:

وأَلثِمُ أَرضًــا أَنـــتِ فِيهــــا مُقِيمَةٌ

لَعَلَّ لَهِيبِي مِن ثَرَى الأَرضِ يَبرُدُ!

على أَنَّها واهِيَةٌ أَمامَ الحُبِّ والشَّوقِ المُنهِكِ، فَإِذا الَّتي «لا تُسامِحُ» تَنكَفِئِ مِنْ حَرَدِها إِلى واحَةِ الرِّضَى، فَتُسبِغُ الهَوَى مُرتَعِشَةً «رِعْشَةَ الحُرُوفِ السَّاجِدَةِ أَمامَ الحَبِيبِ في ابتِهال» (مَقطُوعَةُ «نَعَم أُحِبُّكَ»). وقد يَكُونُ أَيَّ حَبِيبٍ استَوقَفَها في مَسِيرَةِ العُمرِ، وزَعزَعَ حِرْزَها، وأَشعَلَ دَمَها المُستَكِين. ولِلشُّعَراءِ حُبٌّ جَمٌّ إِمَّا خَبا اتَّقَدَ رَدِيفُهُ، فَالنَّفسُ الشَّاعِرَةُ في ضِرامٍ أَبَدًا، والحُبُّ مِن عَتادِها في حَوْمَةِ القَوافِي، ومِن زادِها في مَتاهاتِ اللُّغَةِ، وجَمالاتِ كُنُوزِها، وضَوابِطِها الَّتِي لا تَنتَهِي.

فَهَل تَكُونُ هِيَ مِن مَذْهَبِ عُمَرَ بنِ أَبِي رَبِيعَة قائِلًا:

سَلامٌ عَلَيها، ما أَحَبَّتْ سَلامَنا،

فَإِن كَرِهَتهُ فَالسَّلامُ على أُخرَى؟!

ثُمَّ، أَلَيسَت هي القائِلَةَ، في (حِكايَتِي مع التَّفاصِيل):

«في دُستُور الهَوى أَسجُو

وله فقط أرتِّل المزامير…»

مَهما يَكُنْ فَالشَّاعِرُ مَعذُورٌ. أَما يَشفَعُ لَهُ ما يَحبُونا مِنْ رَوائِعِ السَّنا؟!

 

ونَقُولُها

إِنَّ ما يَنتابُكِ، يا صَدِيقَتَنا، مِن حُبٍّ ومَقْتٍ، مِن هُيامٍ وقِلًى، مِن غَيْرَةٍ واجتِواءٍ، مِن صَبابَةٍ واستِياءٍ، مِن إِعزازٍ وشَحْناءَ، مِن كِبرِياءٍ وتَذَلُّلٍ، هي، كُلَّها، مِن أَدواءِ مُعظَمِ الشُّعَراءِ الَّذِين شَفَّت قُلُوبُهُم حَتَّى الوَجَعِ، فَجَوارِحُهُم على حَساسِيَّةٍ مُفرِطَةٍ، ونَقاؤُهُم وَشِيكًا ما تُكَدِّرُهُ عَبَساتُ الأَيَّامِ، فَلا يَثبُتُونَ في وادٍ حَتَّى يَشُدُّونَ الرِّحالَ إِلى آخَرَ، لِتَعُودَ القِصَّةُ إِلى حَيثُ بَدَأَتْ، لَكَأَنَّ سَرائِرَهُم مَطبُوعَةٌ على العِشقِ الدَّائِم.

تَقُول، في (مَقطُوعَة «في جُرْن الأَحزان»):

«كم مرّة عليك أن تعمّدَني يا قلبي؛ قهرًا في جرن الأحزان؟».

وسَبَقَها الأَخطَلُ الصَّغِير:

أَيُهـا الخافِقُ المُعَذَّبُ يا قَلبِي نَزَحْتَ الدُّمُوعَ مِن مُقلَتَيَّـا
أَفَحَتمٌ عَلَيَّ إِرسالُ دَمعِي كُلَّما لاحَ بارِقٌ في مُحَيَّا،
أَو كَأَنَّ في كُلٍّ مِنهُم «سِيْزِيفٌ»([6]) مَحكُومٌ بِالضَّنَى المُتَواصِل!

ونُلاحِظُ عَلَيها حِرصَها على المُوسِيقَى تُواكِبُ تَراكِيبَها ومُفرَداتِها. وهي إِمَّا تَظهَرُ جَلِيَّةً في التَّفعِيلاتِ مُتَرَدِّدَةً مُتَجاوِبَةً، وإِمَّا في اللَّفظَةِ بِدَلالِيَّتِها، وانزِياحِها عن المَعنَى الحَرْفِيِّ بِفِطنَة.

مِن جَمِيلِها المُرَنِّمِ نَقرَأ:

«حتّى لو سألتك الرّحيلَ

إبقَ معي واخلع معطفَ السّفر

إبقَ معي حتّى تورق أغصان الشّجر

ويزهرَ اللّوز في كرومنا

حبًّا يراقص دواليَ العمر!

إبقَ معي،

كي يهطلَ في صحرائي المطر

ويحال السّرابُ واحة من الدّرر!

فما لوني، وما عمري،

لو لم تكن أنت فيه القدر!

إبقَ معي!»         (مَقطُوعَة «إِبقَ مَعِي!»).

ونَقرَأُ هذهِ السُّوْرَةَ مِن بِنائِها الرَّشِيق:

«لا مَفَرَّ الآنَ مِن الرَّحيل ونَزْف حزنِها بات يُلَوِّن ضِياءَ الأَصِيل»

(مِن «خَواطِرُ مِن دَمِي»)

وإِذْ تَقُولُ، فِي المَقطُوعَةِ نَفسِها: «أَنا ذلك اللَّاشيء الَّذي يَحوِي كُلَّ الأشياء معًا»، تَأخُذُنا إِلى الإِمَامِ عَلِيٍّ بنِ أَبِي طَالِب، مُتَأَمِّلًا ومُخاطِبًا الإِنسان:

وَتَحسِبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ وَفِيكَ انطَوَى العَالَمُ الأَكبَرُ

وإِنَّها لَتَستَجِيبُ لِمَقُولَةِ الفَيلَسُوفِ جان بُول سارتر: «الذَّاتُ هي المَسؤُولَةُ عن تَحقِيقِ واقِعِها ومُستَقبَلِها»، حِينَ تَقُولُ هي:

«ويَحصلُ أَحيانًا أنّ الشّمس تُشرق للجميع إلّا لها؛ فإذا بها تنتزع أقلام التّلوين خاصّتها من جعبة أحلامها البريئة، وتمضي تعانق بخربشاتها الملوّنة المصطنعة أديم أوراقها الصّفراء، لترسمَ شمسًا غريبة لا تشبهها أيّ من نجوم المجرّات، شمسًا تُضيئها هي ساعة تشاء وتطفئها ساعة تشاء!»

(«خَواطِرُ مِن دَمِي»)

ونَصِلُ إِلَيها، فَيحائِنا الحَبِيبَة.

فَلَكِ اللهُ، يا شاعِرَتَنا.

تَقُولِين: «طَرابلس يا حبيبَه. يا بِلادَ اللَّيمون والعَنبَر».

فَتُثِيرِينَ فِينا الأَشجانَ، والحَنِينَ إِلى مَوئِلِ الذِّكرَياتِ العِذابِ، ونَزَقِ الصِّبا والشَّباب.

هي الفَيحاءُ، هاجِعَةٌ، أَبَدًا، في كَوامِنِ مَشاعِرِنا، بِأَيَّامِها الجَمِيلاتِ في سِتِّينِيَّاتِ القَرنِ العِشرِين، حَيثُ الهَوَى دُوْرُ سِينَماتِها، وحَدِيقَتُها العامَّةُ، وشُرُفاتُ العِشقِ الفائِرِ، والمِلاحُ الصَّبايا اليافِعاتُ، والشَّوارِعُ الَّتِي ما تَزالُ على رُصفانِها خُطانا، شاهِدَةً على فِتْيَةٍ في شَرايِينِهِم نَجِيعٌ يَتَّقِدُ، وفي لِحاظِهِم أَحلامُ الزَّهْرِ والنَّدَى وَ«الأَمَلِ المَنشُود».

 

وتُعَرِّجُ، في رِحلَةِ الأَناشِيدِ، على «جارَةِ القَمَر» أُمِّها بِلَهفَةِ الطِّفلَةِ لَجَّ بِها الشَّوقُ إِلَى الحِضْنِ الدَّفِيءِ، فَتَصِيحُ والبُحَّةُ تَخنُقُ الحَنجَرَة:

«وإذ يعبق في ثنايا روحي بخور يدَيك، أمّي…

أعود طفلة تمرح في جنانك البيضاء،

وما إن أذكر اسمك حتّى تتراقص أنوارك

في دوائر عتمتي الحالكة، أمّي!

أأعود إلى أحضانك قريبًا، وبين ذراعيك، طفلة تهوى الضّحك والشّغب وطعم السّكّر في صوتك، وزيت الحبّ في خوابيك؟ يا جارة القمر!

أيا أمّي، أطلّي ولو قليلًا،

وبلّلي ما جفّ في عمري، يا جارة القمر!»

هي تَرنِيمَةٌ تُلامِسُ كُلَّ قَلبٍ، وتُحَرِّكُ الشَّجَى في مَن فَقَدُوا الأُمَّ، ذِراعَ اللهِ في أُعجُوبَةِ الخَلْقِ!

وَهَل لَها أَن لا تَمُرَّ على المِحرابِ المَهِيبِ، أَبِيها، الصَّدِيقِ العَزِيزِ شاعِرِ الكُورَةِ الخَضراءِ، الَّذِي تَرَكَ إِرْثًا ثَقافِيًّا تَزهُو بِهِ العَرَبِيَّةُ، ونُفاخِرُ بِهِ ونَعتَزُّ، نَحنُ أَبناءَ كُورَتِهِ الحَبِيبَة. وهي الابنَةُ الَّتِي، بِبِرِّها وجِدِّها، نَفَضَت عن دَفاتِرِ الوالِدِ غُبارَ النِّسيانِ، ورَفَعَتها في الشَّمسِ كَنزًا يَبقَى مِن أَزوادِ الآتِي لِأَنَّ فِيهِ خَمِيرَةَ الحَياة.

تَقُولُ، في (مَقطُوعَة «رِسالَةٌ إِلى أَبِي»):

«تردّدتُ كثيرًا أن أضع اليوم صورة لعبد الله شحاده،

هذا الذي أنا منه،

هذا الذي تملأني ذكرياته وتؤلمني ذاكرتي في غيابه

هذا الذي صنعني يومًا وصقل أجمل ما لديّ

طالما أردت عناقه ولو عبر الكلمات وعبر قطار  الخيالات!

أزور اليوم كلّ قطب حمل في طيّاته خطابًا له، وألثم تراب كلّ أرض قد وطأتها يومًا قدماه.

أحببتُ الكتابة فقط، يا شاعر الكورة الخضراء، لكي أكتبَ لك رسائل مضمّخة بالحزن والوجع وأودعها في صندوق بريد الذّكريات!»

وكَما يَقُولُ المَثَلُ: «آخِرْ العَنقُودْ سُكَّرْ مَعقُودْ»، فَإِنَّها أَفرَغَت دَورَقَها على ثُمالَةٍ فِيها رَحِيقُ زَيتِنا الَّذي رَعانا في جَهامَة الأَيَّامِ، نَحنُ أَبناءَ الأَرضِ الَّتي يَتَجَذَّرُ في تُرابِها المُبارَكِ شَجَرُ الخَيرِ، زَيتُونُنا الباقِي على الزَّمَنِ، يَتَحَدَّى الأَعاصِيرَ، ويَهزَأُ بِالفَناء.

إِنَّها (مَقطُوعَة «في مَعصَرَةِ الزَّيتُون»).

في نَسِيجِها نِداءَاتُ الشَّوقِ لِلأُمِّ المُكافِحَةِ في غِيابِ الأَبِ الحانِي، وشَهادَةٌ في أَمانَةِ هذه الرَّؤُومِ، وَوُقُوفِها سِندِيانَةً في وَجهِ الرِّيحِ العاتِيَةِ، حَتَّى أَوصَلَت سَفِينَةَ العائِلَةِ إِلى بَرِّ الأَمانِ، وواحَةِ الطُّمَأنِينَة.

كَما في حَبْكَتِها ذِكرَياتُ تِلكَ الأَيَّامِ المَشهُودَةِ، بِدِفئِها، وجَلَبَةِ النَّاسِ يَنقُلُونَ إِلى المَعصَرَةِ زَيتُونًا رَعَوْا أَشجارَهُ بِحَدَبِ الأُمِّ على وِلْدانِها، وانتَظَرُوا وِفادَتَهُ، عامًا كامِلًا، بِشَوقِ الحَبِيبِ المُستَهام.

ومِمَّا جاءَ فِيها:

«أعودُ اليومَ وصدى ضجيج العمّال في أذنَيّ، وأمّي تباركُ محصولَ الزّيتون في كلّ يوم، وتحصي أشولةَ الحبِّ الأخضر…

كانت مواسم الزّيتون تمتدّ ما بين تشرين الثّاني وأواخر كانون: فيها تهلّل الأعياد في ديارنا، وتتفجّر الأماني في أماسينا.

وبين مدّ العصيّ وجزرها في فرط الزّيتون، كانت أمّي تُنشدُ تراتيلَ الأمل، وتُكابدُ بصمت، لعلّ المحصولَ يكون مباركًا في كلّ سنة.

وإلى الرّحى، في معصرة الزّيتون!

هناك يعانق الأصيلُ نهاية المطاف، ويتصاعد البخورُ من ديار أمّي المقدّسة، وتنصهر الحبوبُ في شهقة كانون وتشتعل حممها عندما تقطر زيتًا في جرار الحبّ ودنان الزّمن».

فَيا ابنَةَ عَبدالله([7])،

يا شِبْلَ ذاكَ الأَسَدِ وذاكَ العَرِينِ الحَصِينِ،

يا زَيتُونَةً غَضَّةً ثَرَّةَ الغِلالِ مِن كُوْرَتِنا الخَضراء،

ويا غَجَرِيَّةً تَحمِلُ الغَزَّارَةَ قِيثارَةً تُتقِنُ على أَوتارِها بَرْءَ الأَلحانِ، وتَنقُرُ الحُرُوفَ فَيَنبَثِقُ النَّغَمُ جِنِّيَّ شِعْرٍ أَفلَتَ مِن قُمقُمِهِ،

أَلَا أَكثِرِي مِنْ تَسَكُّعِكِ البُوهِيمِيِّ على دُرُوبِ الخَيالِ، وَنَوِّرِي الصَّحائِفَ بِنُورِ فِكرِكِ وَنَوْرِ رِيشَتِكِ، تَشتَعِلْ وَجْدًا وحَنِينًا في جَوارِحِ مُحِبِّيكِ، ومُثَمِّنِي وِجدانِكِ الضَّافِي مُنَضَّدًا دُرَرًا غَوالِيَ في الصُّدُورِ وعلى رُفُوفِ المَكتَبات.

وَقَرِّي عَينًا، فَلَقَد كَتَبتِ بِحِبْرِ العَواطِفِ الصَّادِقَةِ، وسَخِينِ الجِراحِ، ومِنْ قَرارَتِكِ العَمِيقَةِ، لِذا سَتُلامِسِينَ النُّفُوسَ المُرهَفَةَ، وتَترُكِينَ في القُلُوبِ أَثَرَ الطَّلَى على ثُغُورِ الأَقاحِ، وَ «مَا هُوَ مِن عُمْقِ إِنسانٍ ما، يَكُونُ مِن أَعماقِ كُلِّ  النَّاس»([8]).

سَيَحَقُّ قَولُكِ في (مَقطُوعَة «يا قَصائِدِي»):

«حروفُكِ تُدوّي يا قصائدي

في قلوب العاشقين،

تمطر سنا وتزهرُ غوى

تنسّم جمرًا في مواقد العابرين!»

أَلا أَدامَ اللهُ عَطاءَكِ، بَياضَ صُبْحٍ بَهِيٍّ مِن مِدادٍ أَسوَدَ، ورُؤًى هَفَّافَةً أَسَرَتها رِقَاع!

الرَّبوَة قُرْنَةُ شَهْوان

                                    9/ 12/ 2020

 

***

([1])– الكُثبانُ المُغَنِّيَةُ: ظاهرَةٌ تتمثَّلُ في ما دَعاهُ رَحّالةٌ غَربيّون إلى صَحارى الجَزيرَة العَرَبيّة “الرِّمال المُغَنِّية”، سَمّاها البَدْوُ “الكُثْبان المُغَنِّية”. ويذكر هاري سنْت جُون فِلِبّي أنّه سمع هذه الظّاهرة الغريبَة في رِمالِ الرّبعِ الخالي وأنّ البَدوَ هناك يَعزُونَها إلى الجِنّ.

([2])– “إنَّهُ هَواءُ البَلادَةِ الذي يَهُبُّ على وُجوهِنا (شارل بُودلير Charles Baudelaire, poète français, 1821- 1867، قالَها في الشِّعر الهابط).

([3])– ﴿فأرسَلْنا عَلَيهِمْ رِيْحًا صَرْصَرًا في أيّامٍ نَحِساتٍ لِنُذيقَهُمْ عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرون﴾ (القرآن الكريم، سُورَة فُصلَت، الآية 16).

([4])– ﴿يَوْمَ نَطوي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كما بَدَأنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعدًا عَلَينا إنّا كُنّا فاعِلين﴾ (القرآن الكريم، سُورَةُ الأنبِياء، الآية 104).

([5])– من معلّقة عنترة بن شدّاد حيث يقول:

نُبِّئتُ عَمْرًوا غَيرَ شاكِرِ نِعمَتي وَالكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ المُنْعِمِ

([6])– سِيزيف أو سِيسِيفُوس كانَ أحَدَ أكثَرِ الشّخصِيّاتِ مَكْرًا بِحَسَبِ المِيثولوجيا الإغْريقِيّة، حَيْثُ اسْتَطاعَ أن يَخْدَعَ إلهَ المَوْتِ ثاناتُوس مِمّا أغْضَبَ كَبيرَ الآلِهَةِ زيُوس، فَعاقَبَهُ بِأن يَحمِلَ صَخْرَةً من أسْفَلِ الجَبَلِ إلى أعلاه، فَإذا وَصَلَ القِمَّةَ تَدَحْرَجَتْ إلى الوادي، فَيَعودُ إلى رَفْعِها إلى القِمَّةِ، وَيَظَلُّ هكذا حتّى الأبَدِ، فأصْبَحَ رَمْزَ العَذابِ الأبَدِيّ (موقع ويكيبيديا).

([7])– هو والِدُ المُؤَلِّفَة، شاعِرُ الكُورَةِ، المُبدِعُ عبد الله شحاده.

([8])– “ما هو من عُمْقِ إنسانٍ ما، يكونُ من أعماقِ كلِّ النّاس” (أوغست رُودِين).

Auguste Rodin: “ce qui est profondément vrai pour un homme l’est pour tous ».

 

 

Back to top button