78 عاما على استقلال منهك
بقلم: طوني فرنسيس

لبنان أمام تحديات التغيير وبناء الدولة المتحررة من تحالف الفساد والميليشيا

النشرة الدولية –

لبنان بلد عربي مستقل. اليوم يكمل استقلاله 78 سنة. وعلى الرغم من المصائب التي يرزح تحتها، يبقى شعبه، أو شعوبه، أكثر تمسكاً به وطناً لا بديل منه. أطفاله حملوا في المناسبة علمهم الأحمر والأبيض والأرزة في وسطه. ولبى كثيرون في الداخل والمغتربات البعيدة الدعوة إلى إعلاء شعارهم الوطني في يوم العلم الذي جعله وزير “استقلالي” للتربية الوطنية قبل 42 عاماً، عيداً وطنياً، رداً على انزلاق ميليشيات الحرب إلى رفع أعلام مموليها من رعاة الاشتباك اللبناني الدائم.

تلك الميليشيات لم ينقضِ عهدها، وهي اليوم تمثل مشهداً نقيضاً لمشهد أطفال المدارس الذين يتعلمون إنشاد نشيدهم الوطني ويلوحون بعلمهم ولو “أونلاين” في لبنان وخارجه بسبب الهجرة أو لجوء المدارس إلى التعليم عن بعد مع استمرار جائحة كورونا. والمشهد الذي تقدمه تلك الميليشيات يتمثل في حده الأدنى باستخفاف صريح بالمعنى الوطني للاستقلال وحصر قيمته بما تقوله الميليشيا عن نفسها، من تأكيد الانتماء إلى بلد أجنبي هو إيران وما ترسمه من مشاريع قوامها رفع المذهبية إلى ما فوق الوطنية ليسهل الإمساك بجمهور طائفي يسهل تطويعه وتالياً تطويع البلد الذي يقيم فيه.

كان لبنان بين دول المشرق العربي السباقة إلى نيل استقلالها عن الانتداب الفرنسي عام 1943. العراق والأردن استمرت فيهما الهيمنة البريطانية حتى 1958، ودول الخليج العربي لم تحقق استقلالها إلا مطلع السبعينيات، وسبقتها الكويت بعشرة أعوام، ووحدها المملكة العربية السعودية كانت دولة مستقلة منذ مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وإلى جانبها اليمن الشمالي. وأنشأت الدول المستقلة جامعة الدول العربية بمشاركة لبنان المدعوم يومها من السعودية ومصر، في وجه مطامع السلطة السورية التي بقيت على تشكيكها بقيام لبنان المستقل.

كان يمكن للبنان أن يتحول نموذجاً في عملية بناء الدولة الديمقراطية المستقرة والمتطورة، وهو سلك هذه الطريق بجدية، فيما كانت دول مجاورة تنتقل إلى أنظمة الانقلابات واختصار الشعب بالعقيد العسكري. في 1952، رفضت أكثرية شعبية سياسية التمديد للرئيس الاستقلالي الأول بشارة الخوري، فأطاحت مشروعه احتكار السلطة. وفي 1958، تجددت المشكلة مع الرئيس كميل شمعون، في ظروف تصاعد الموجة الناصرية القومية، ومرة ثانية أمكن ضبط التوازن السياسي الداخلي لمصلحة نهج سيستمر نحو عقد تحققت خلاله أبرز مكتسبات دولة الاستقلال، في وقت كانت الديكتاتوريات العسكرية الحزبية تُمعن قمعاً في أبرز دولتين مجاورتين، العراق وسوريا.

يمكن إعادة جذور الاختلال والكارثة التي ستحل باللبنانيين إلى قيام إسرائيل وتشريدها الشعب الفلسطيني، ويعيدها آخرون إلى طبيعة النظام الطائفي اللبناني القائم على تقاسم دقيق للسلطة.

وفي الأمرين نسبة من الصحة. فالسياسة الإسرائيلية جعلت من الفلسطينيين مجموعات مسلحة تقاتل من أجل “العودة والتحرير” انطلاقاً من لبنان، فانقسم اللبنانيون وفشل قادتهم في تحديد رؤية موحدة تضمن المصالح العليا لبلدهم وشعبهم. كان هؤلاء القادة، وهم في الوقت ذاته يمثلون ما اصطلح على تسميته البورجوازية اللبنانية بشقّيها المسلم والمسيحي، أعجز من أن يواكبوا تراكم الأزمات بمحاولات جدية لإيجاد الحلول وابتكار التسويات. فشلوا في التعامل مع الوجود الفلسطيني المسلح، فشرّعوه عبر عقد “اتفاق القاهرة”، ثم فشلوا في استعجال التسوية لدى نشوب الحرب الأهلية عام 1975، ولجأوا إلى استجلاب التدخل السوري وبعده الإسرائيلي. وطوال كل تلك الأعوام، اتضح أن ما كان يتم تصنيفه كطبقة بورجوازية حاكمة ليس سوى تجمع مؤقت سيتحول مع ازدياد حدة الاشتباك الداخلي إلى تجمع لزعماء ميليشيات الحرب الطائفية، يصعب لجمه إلا بتدخل خارجي، ويتحول بسرعة إلى خادم للخارج. وتبيّن أن الخلافات الداخلية التي كان يمكن معالجتها بالسياسة كما في عام 1952، باتت مستعصية مع دخول العوامل الخارجية على خط انتفاخ المشاعر الطوائفية وتناقضاتها وانقساماتها.

كان اتفاق الطائف الذي أقرّ في السعودية، محاولة أساسية لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة. لكن السيطرة السورية واستثناء “حزب الله” من قرار نزع سلاح الميليشيات، إضافة إلى ثغرات في الاتفاق نفسه، أدت إلى إغراق مشروع الدولة مجدداً في الاستحالة. جرى تفسير تلزيم النظام السوري تنفيذ الاتفاق اللبناني بأنه مكافأة له لمشاركته الأميركيين في حرب الخليج الأولى. وقيل في تفسير الإبقاء على سلاح ميليشيا “حزب الله” بأنه ضروري حتى استكمال تحرير الجنوب اللبناني وتحقيق الانسحاب الإسرائيلي منه. وقيل أيضاً إنه نتيجة اتفاق إيراني أميركي سرّي على عدم ملاحقة الحزب الذي تتهمه الولايات المتحدة بتفجير مقار أميركية وقتل المئات من مواطنيها، إضافة الى خطف نحو 104 رهائن غربيين خلال أعوام الثمانينيات بإشراف إيران ودعم سوريا…

كان كل ذلك كفيلاً بجعل الدولة اللبنانية فارغة وتابعة، ولم تنجح محاولة رفيق الحريري المدعومة من السعودية ودول الخليج في إحداث خرق يتعدى حدود الازدهار الاقتصادي. بقيت السياسة في يد السلطة السورية، ونما تنظيم “حزب الله” بإشراف إيران ودعم سوريا، ليتحول إلى دولة في الدولة، فيما انصرف أركان النظام الطائفي إلى البحث عمّا تتيحه لهم السلطة الفعلية من فضلات.

لبنان هو اليوم في هذه النقطة الخطيرة. استقلاله مهدد بالميليشيا، واقتصاده منهوب على يد المتواطئين معها، ولا أحد يمكنه الحديث عن بلد طبيعي، استقلاله رهينة واقتصاده منهوب وشعبه يُدفع دفعاً إلى الإفلاس والهجرة.

مع ذلك، ثمة فرص في هذه اللوحة المتشائمة. الانتخابات العامة باتت قريبة ويمكن لنتائجها أن تحدث تغييراً جوهرياً في طبيعة الحكم، بما يضع حداً لمسار غير طبيعي لبلد طبيعي. وهذه الانتخابات يُفترض أن تكون استفتاء على التشبث بالاستقلال والتغيير في آن. وهو ما يطمح إليه كثيرون في بلاد الأرز.

Back to top button