عيسى حلوم.. فنان لبناني يُسافر بأناشيد ألوانه الحارة إلى الشمس
افتتحت صالة “آرت أون 56 ستريت” البيروتية مؤخرا معرضا جديدا للفنان التشكيلي اللبناني عيسى حلوم، ضمّ مجموعة من الأعمال المختلفة الأحجام تحت عنوان “إشراقة الطبيعة”.
موضوع المعرض، كالعادة، لا يخرج عن عوالم الطبيعة في البقاع حيث ولد ويعيش الفنان. وهو لا يزال، أي الفنان، يختار منذ سنوات عديدة أن ينتقي من مشاهداته ما يبتعد كل البعد عن مظاهر المدنية التي بدأت منذ سنوات عديدة دخولها إلى أخضر طبيعة البقاع وتدرجاته الذي شغل روح وقلب الفنان إلى أقسى حد.
وهو في ذلك لا ينفي حضور تلك المظاهر ولا يحاول أن يتجاهلها، بقدر ما يحاول إثبات انحيازه العاطفي والبصري الثابت تُجاه الطبيعة التي هي الأصل ولا خلاص إلاّ بالعودة إليها.
عين الفنان اللبناني عزمت ألاّ تلتقط وتحتفي إلاّ بالزهرة الأقحوانية الوحيدة التي لم تستطع النيران أن تلتهمها
حلاوة النظرة ونقاؤها
ما أن يحضر عمل للفنان عيسى حلوم، إلاّ ويأخذنا، أو بعبارة أدقّ يُحيلنا، إلى أعمال العديد من الفنانين التشكيليين اللبنانيين المعاصرين الذين اختاروا الاحتفاء بالطبيعة والفن التعبيري الممزوج بالانطباعية الفنية في وسط الأزمات اللبنانية المتعاقبة.
هؤلاء يشبهون من يسير في حقول محروقة وهو مدرك ومتأثّر بفظاعة ما ترى عينه. ولكن عينه عزمت على ألاّ تلتقط وتحتفي إلاّ بتلك الزهرة “الأقحوانية” الوحيدة التي لم تستطع النيران أن تلتهمها، لتضاعف من إشراقتها وتفتح لها دروبا أثيرية لخلاصها في الأعمال الفنية.
حلوم هو واحد من هؤلاء الفنانين، الذين يتمتّعون بأسلوبهم الفني الخاص، شأنه في ذلك شأن سائر الفنانين المناصرين لحلاوة النظرة ونقائها، في كل أعمالهم الفنية.
وحين نقول “إشراقة” فلا نعني بذلك مطلقا الأعمال الفنية التي تصوّر أجواء صيفية أو ربيعية ملوّنة خضّبها الضوء البقاعي النافذ حتى عمق المسام، بل نقصد كل الأعمال الفنية حتى تلك التي تصوّر مشاهد شتوية والثلج قد كسا الحقول والسهول.
المشهد المفتوح: هذا ما يقدّمه البقاع للفنان عيسى حلوم، ابن بلدة العين البقاعية، وهو أمام هذا المشهد المفتوح استطاع أن يصوغ مشاهد “لونية” أكثر من كونها ملوّنة، حيث أظهرت عينه الخبيرة وخبرته التي تخطّت العقدين من الاشتغال على الرسم الجمالي قدرتها على تقسيم وإظهار اختلاف تدرجات البقاع اللونية وما تحمله من ظلال لغيوم عابرة في سمائها، دون أن تقع في تقطيع وتأطير المشاهد إلى أقسام تخرجها من شعريتها وأجوائها البالغة الحسية.
الفنان يقدّم في معرضه الجديد مجموعة من اللوحات التي غلبتها تدرجات اللون الأصفر. وما يهمنا أن نذكره حول تلك اللوحات هو تجلي قدرة الفنان بأن يشتّت نظرتنا للوهلة الأولى عن تدرجات اللون الأصفر. الأصفر لم يعد لونا. هو الضوء الحاد الذي تتميّز بها هذه المنطقة من لبنان التي تتحمّل أنصاف الأمور حتى بكمية تدفق ضوء شمسها “الخارقة” صيفا والعمودية خريفا.
وكل من زار البقاع في أوقات مختلفة من السنة سيلمس بأم عينه كيف أن الطبيعة هناك حادة في كل أوقاتها. وقد برزت في بعض لوحات الفنان أجواء فترة العصر في السهول. سهول خفتت فيها نبرة ألوان الشمس، ولكن ليس إلاّ ليحلّ مكانها تصاعد أنفاس الأرض العابقة بحرارة اليوم الذي مضى.
عصافير وحقول
حتى العصافير الحاضرة في العديد من لوحات حلوم الجديدة تلوّحت بحرارة الشمس. بعضها يبدو عطشا في انحناءات الرأس وأيضا في ظهورها إما ظلالا على أغصان أشجار دقيقة وإما على سياج محيط بحديقة أو حقل، أو هي مُعلقة في الفضاء حينا وقريبا من الأرض حينا آخر في سكون غرائبي.
عصافير الفنان عيسى حلوم تشبه أرض البقاع وأجواءه، فعلى الرغم من رقتها ولطافة مناقيرها الدقيقة تحتفظ بقدرتها على النظر في عين الشمس.
يحضر الإنسان في لوحة الفنان منهمكا في أعمال يومية أو مستريحا في واحة ما طغى عليها الهدوء اللوني. وهذه ليست المرة الأولى التي يرسم فيها الفنان الإنسان والعامل، ولكنه يحضر في لوحاته الجديدة “كملحق” للأرض، إذا صحّ التعبير، أي يبدو أنه مجرد تفصيل عابر وبقعة لونية مُشكّلة هي في نشاطها ترشح شذرات (ولا نقول مشحات) لونية إضافية تركتها حولها أو خلفها ومضت.
وعيسى حلوم من مواليد بلدة العين في شمال البقاع. يعيش فيها ولا ينوي مغادرتها لأنها مصدر إلهامه وحضن عيشه.
وفي كل مرة نعثر على لوحة جديدة من أعماله وقد نشرها على صفحته الفيسبوكية تستوقفنا وتأخذنا إلى زمن ومكان آخر لا علاقة له بالوضع المتأزّم الذي تعيش فيه لبنان ومن ثمة اللبنانيون جميعا. وهو لم يتوقّف عن دعوتنا إلى عالمه هذا لأكثر من عشرين سنة. غادر الفنان بلدته البقاعية إلى بيروت ليتلقى دراسته في الفنون التشكيلية، وبعد ذلك غادر إلى إيطاليا ليعمّق من دراسته.
شارك في العديد من المعارض الجماعية داخل لبنان وخارجه، لاسيما في الدول العربية. ومعارضه الفردية كثيرة وتخطّت الـ25 معرضا وجاءت جميعها على اختلافها وتعدّدها ضمن عنوان عام بقي الفنان وفيا له حتى الآن وهو: بطولة الطبيعة وإشراقها.
وهو يستمرّ في إقامة معارض لأعماله في بلدته العين، كما كانت صالة “ألوان” لصاحبتها أوديل مظلوم العريقة في مجال الفن، الحاضنة لمُجمل معارضه المُقامة في بيروت. وهو اليوم يعرض في غاليري “آرت أون 57 ستريت” لأول مرة في لبنان بعد أن تعرّضت صالة “ألوان” لتدمير كبير في انفجار الرابع من أغسطس 2020.
وجاء معرض “إشراقة الطبيعة” مباشرة بعد معرضه الفردي الذي أقامه السنة الماضية في صالة “المرخية” بالعاصمة القطرية الدوحة، وكان عنوانه “أنغام الفصول”.