الإفلات من العقاب
بقلم: أ.د. غانم النجار
النشرة الدولية –
حلّت علينا قبل أيام الذكرى الـ 76 لأول محاكمات دولية للجرائم ضد الإنسانية، في محاكم نورمبرغ، والتي أقامها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لمحاكمة المهزومين، والتي أُطلِق عليها مصطلح “عدالة المنتصر”.
اعتاد البشر عبر حقب زمنية مختلفة أن يفلت من العقاب المجرم ذو النفوذ، وذو السطوة، وذو القوة، أما المهمش، والضعيف، ومن لا ظهر له، فيعاقب حتى آخر قطرة دم.
إلا أن أي نظام للعقاب لابد أن يخضع لقواعد عدالة صارمة، فمقولة “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”، عبارة ناقصة؛ لأن إدانته لابد أن تتم أمام “محكمة عادلة نزيهة مستقلة، تتوافر له فيها كل ضمانات الدفاع عن نفسه”، وإلا فإن تلك الإدانة هي والعدم سواء، فالدفاع عن مسارات العدالة وحق المتهم في محاكمة عادلة، هو دفاع عن المجتمع لا عن المجرم.
وتعد الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية من أخطر الجرائم التي يرتكبها البشر، ولذلك فهي لا تسقط بالتقادم، أي أنها تبقى أبد الدهر قابلة للتحريك في أي وقت، فما ان يسقط نظام ديكتاتوري إلا وكانت قضية محاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية من أهم القضايا المطروحة، وقليلاً ما تنجح تلك المحاولات، ولذا ظل منع الإفلات من العقاب مدخلاً رئيساً في تماسك المجتمع. وكثيراً ما اصطدمت المحاسبة على الجرائم الإنسانية بتماسك منظومة الظلم، والاستئثار بالسلطة، والقوة المفرطة، وتشابك المصالح المانعة لمحاسبة الأقوياء وأصحاب النفوذ.
وبعيداً عن “عدالة المنتصر”، فقد فرضت أحداث دامية، بعد انتهاء الحرب الباردة، في بداية تسعينيات القرن الماضي، محاولات جديدة، بدءاً من إنشاء محاكم جنائية دولية خاصة في البوسنة ورواندا وسيراليون. وفي حديث سابق لي مع د. شريف بسيوني، شرح فيه الجهد المضني الذي تم لإنشاء محكمة البوسنة، موضحاً كيف أن المراقبين كانوا يشككون في جدوى تلك المحكمة.
وها هي المحكمة قد أغلقت أبوابها، ونجحت في القبض ومعاقبة أغلبية المتهمين الرئيسيين، مثل رئيس صرب البوسنة رادوفان كاراديتش، الذي حكم عليه بالسجن 40 عاماً بتهم قتله مسلمين بوسنيين في مذبحة سيربنيتشا سنة 1995م. فما ان انتهت حقبة المحاكم الخاصة حتى تم إقرار اتفاقية روما سنة ١٩٩٨، التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية، والتي دخلت حيز النفاذ ٢٠٠٢، ومع أنها مازالت بحاجة إلى الكثير لتقوية فعاليتها، فإن بعض الدول رفضتها وكان من أبرزها الولايات المتحدة، وإسرائيل وأغلبية الدول العربية، فاجتمعوا، مع تناقضاتهم، على أمر واحد، وهو الإفلات من العقاب.