“حماس” وكتابة تاريخ فلسطين من جديد
بقلم: خيرالله خيرالله
النشرة الدولية –
لماذا ومن أجل ماذا تصرّ حركة “حماس” على الهرب من الواقع؟ ترفض “حماس” أخذ العلم بأن منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” بالذات، خاضتا نضالاً طويلاً من أجل الوصول الى بلورة مشروع وطني فلسطيني.
أُقرّ هذا المشروع القائم على حل الدولتين والاعتراف بالقرار الرقم 242 في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1988. فتح ذلك الأبواب تدريجاً أمام حوار أميركي – فلسطيني، بعدما أعلن ياسر عرفات، من مقرّ الأمم المتحدة في جنيف بالفم الملآن وباللغة الإنكليزية “إدانة الإرهاب”.
كان فتح الحوار بين منظمة التحرير والإدارة الأميركية بداية مرحلة جديدة في النضال الفلسطيني من أجل إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقيّة. أخيراً تخلّصت الإدارات الأميركية من عقدة التعهّد الذي قطعه وزير الخارجيّة هنري كيسنجر لإسرائيل في منتصف سبعينات القرن الماضي. كان هذا التعهّد يقضي بامتناع واشنطن عن الدخول في أيّ حوار مع منظمة التحرير الفلسطينيّة.
ليس صدفة أنّ “حماس” تأسست أواخر عام 1987 تحت شعارات مضحكة، من نوع أن “فلسطين وقف إسلامي” وما شابه ذلك. لو كان في استطاعة “فتح” تحرير فلسطين، لما سعى ياسر عرفات في نهاية المطاف الى حوار مع واشنطن، بعدما اكتشف أن لا خيار آخر غير العمل الدبلوماسي انطلاقاً من رهان واضح على وجود شعب فلسطيني موجود على الخريطة السياسيّة للشرق الأوسط، وأن لا بد من السعي الى إيجاد وجود جغرافي لهذا الشعب.
ارتكب ياسر عرفات أخطاءً كبيرة في مسيرته. من بين هذه الأخطاء جعل منظمة التحرير الفلسطينيّة رهينة لدى النظام السوري، بسبب ولعه بإيجاد موقع على الأرض اللبنانيّة. ارتكب جريمة في حقّ لبنان. أساء قبل ذلك الى الأردن الذي أنقذ نفسه وأنقذ القضيّة الفلسطينية عام 1970، بفضل الملك حسين الذي جمع بين الحكمة والشجاعة في آن.
تسبب “أبو عمّار” أيضاً بكارثة فلسطينية كبرى، بسبب موقفه المتذبذب من الاحتلال العراقي للكويت صيف عام 1990. استطاع، على الرغم من ذلك كلّه، دخول عمليّة سياسية واعدة، بعدما أدرك العالم، بما في ذلك أميركا، أن لا مجال لإلغاء الشعب الفلسطيني. في المقابل، لم تتوقف “حماس” منذ ولادتها عن السعي الى إعادة عقارب الساعة الى خلف، متجاهلةً النضال الطويل للشعب الفلسطيني. رفضت في الوقت ذاته الاستفادة من التجارب المرّة التي مرّ فيها الفلسطينيون منذ انطلاق الكفاح المسلّح في مطلع عام 1965.
كيف يمكن تفسير تصرفات “حماس” التي أصبحت من وجهة النظر البريطانيّة “منظمة إرهابية”؟ هناك نقطتان يُستحسن التوقف عندهما.
في ما يتعلّق بالنقطة الأولى، قالت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل في تغريدة على “تويتر”: “تمتلك حماس قدرات إرهابية كبيرة، بما في ذلك الوصول إلى ترسانة (أسلحة) واسعة ومتطورة، فضلاً عن معدات إرهابية. لهذا أتحرك اليوم لحظر حماس بالكامل”. من الواضح أن وزيرة الداخليّة البريطانيّة، مثلها مثل وزيرة الخارجيّة أليزابيت تروس، ترى في “حماس” أداة إيرانيّة. تلمّح الوزيرتان الى أسلحة متطورّة لدى “حماس”، مصدرها إيران، في وقت تصدر إشارة بعد أخرى عن مخاوف من الدور الذي تلعبه الطائرات المسيّرة الإيرانية الموجودة عند ميليشيات مثل “حماس”، يتحكّم بها “الحرس الثوري” الإيراني. لم يخف إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” ذلك. حرص على تأكيد العلاقة مع إيران عن طريق قوله إنّها علاقة “استراتيجية”، وإن إيران تزوّد “حماس” بالسلاح!
من المفيد التساؤل، في ضوء الحروب التي خاضتها “حماس” مع إسرائيل، هل يتحمّل قطاع غزّة حرباً جديدة من نوع حرب أيّار (مايو) الماضي؟
أمّا النقطة الثانية التي تستأهل التوقف عندها فهي تتعلّق بالأولويات التي تتحكّم بـ”حماس”. الأكيد أنّ تحرير أي شبر من فلسطين ليس في مقدمة هذه الأولويات. انسحبت إسرائيل من غزّة في ضوء حسابات خاصة بها. حوّلت “حماس” غزّة إمارة إسلاميّة محاصرة. يقف العالم متفرّجاً على الظلم الذي لحق بأهل غزّة. تكفلت “حماس”، بفضل صواريخها، في جعل إسرائيل تبدو في مظهر الضحيّة وبرّرت الحصار الذي تفرضه على القطاع. كشفت “حماس” أنّ هدفها الحقيقي تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني وتحويله من مجتمع منفتح ومثقّف ومتسامح الى مجتمع متزمت ومتخلّف كي يسهل التحكّم به.
قضت “حماس” على المشروع الوطني الفلسطيني. قضت عملياً على القرار الفلسطيني المستقلّ وحوّلت غزة قاعدة صواريخ إيرانيّة. هذا ما دفع بريطانيا الى اتخاذ قرارها المتعلّق بتلك الحركة التي تعتقد أنّ كلّ ما قام به ياسر عرفات، بإيجابياته وسلبياته، وصولاً الى قيام سلطة وطنيّة فلسطينيّة، ليس سوى إضاعة للوقت. تريد “حماس” كتابة تاريخ فلسطين من جديد وربطه بالمصلحة الإيرانيّة. هل هذا ممكن… أم سيتبيّن في نهاية المطاف أن النفوذ الإيراني في غزّة نفوذ مصطنع ولن يصحّ إلّا الصحيح؟ يتمثّل الصحيح في العودة الى المشروع الوطني الفلسطيني المستند الى واقع لا مفرّ منه، لا تستطيع إيران إلغاءه مهما بلغت درجة تحكّمها بـ”حماس”!