دولة غزة.. أوراق مقلوبة
بقلم: مصطفى أبو لبدة
النشرة الدولية –
أسهلُ طريقٍ وأقصرُها لإطالة الوضع الراهن إذا كان مواتيا، ولتجنُّب الخيارات البديلة المُكلفة، هي تصنيع مشكلة صوتية مع خصمك الذي هو شريكك في الاشتباك. بذلك تضمن ترحيل الجدل لاستئنافه في وقت لاحق من النقطة ذاتها التي انتهيتما إليها، مع ميزة أن الخصم يكون تأهل نفسيا وإجرائيا للتسوية.
شيءٌ من هذا القبيل بدا في الذي فعلته إسرائيل إذ تبيّن أنها أوفدت إلى لندن من حرّض وأقنع وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، بتصنيف حركة حماس بكاملها منظمة إرهابية، حيث قدّمت بذلك مشروع قانون للبرلمان تحدّد موعد مناقشته الأسبوع الحالي.
القرار البريطاني بحظر حركة حماس، إنْ صدر، لن يغيّر كثيرا في المشهد الفلسطيني الذي ما زالت فيه منظمة التحرير هي الأخرى تخضع للحظر الأمريكي الذي فرضه الرئيس السابق دونالد ترامب، فضلا عن حظر فرضه مؤخرا وزير الأمن الإسرائيلي على 6 مؤسسات مدنية فلسطينية وُصفت بأنها قريبة من الجبهة الشعبية.
توصيف أي جهة سياسية بالإرهاب لا يضيّق كثيرا في مساحة الحركة والتفاوض والمقايضة، (والأمثلة فائضة في اليمن ولبنان والعراق وسوريا وإيران وفي أفغانستان). لكنه أحيانا يشكل تأهيلا معنويا في شرعية التصدُّر والقيادة، وهي مفارقة موثقة في حوليّات الشرق الأوسط، وتحديدا في التعامل البريطاني الأمريكي مع تشكيلات الإسلام السياسي، السنيّة منها والشيعية.
توقيت ”الخرْجة“ الإسرائيلية بالحشد لإدراج الجناح السياسي لحماس في قائمة الإرهاب، جاء لافتا من زاوية أنه تزامن مع الحديث عن خيار ”الدولة الفلسطينية“ في غزة، وعن مشروع تأهيل حماس لتكرار نموذج طالبان – أفغانستان، في كيفية الانتقال من توصيفات الإرهاب إلى سدّة الشرعية والحُكم.
حجم التسريبات والتحليلات الاجتهادية التي قيلت في هذا الموضوع خلال الأسابيع القليلة الماضية، كان وازنا في استنفار الشواهد وفي تقصّي جدّيتها.
فمشروع دولة غزة ليس جديدا على التداول والمحاكمة، كونه كان مقروءا في حيثيات وظروف القرار الإسرائيلي الذي كانت اتخذته حكومة أرئيل شارون عام 2004 ونفذته تحت مسمى ”فك الارتباط أحادي الجانب“.
وعندما تسلمت حركة حماس السلطة الفعلية في القطاع، بعد عامين، أضحت القناعة شائعة لدى الكثيرين بين القيادات الفلسطينية بأن ”دولة غزة“ ليست مجرد نظرية مؤامرة تتسلسل على أرضية القول إن حركة حماس نشأت عام 1987 لتكون بديلاً عن منظمة التحرير.
عززت تلك الشكوك ،وربما القناعات، في أوساط القرار الفلسطيني ما اجترحته إدارة الحزب الديمقراطي في البيت الأبيض خلال فترة الربيع العربي وهي تتصرف في الشرق الأوسط بخيار الإسلام السياسي الذي أفاضت به وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، بمذكراتها، في الدفاع عنه وتسويغ تنفيذه فلسطينيا في مرحلة ما بعد رئاسة ياسر عرفات.
كانت فترة الرئاسة الأمريكية بعُهدة دونالد ترامب أربع سنوات من عدم اليقين بشأن موقع ”دولة غزة“ في مشروع ما عُرف بصفقة القرن، وهي التي أفردت لموضوع السلام في الشرق الأوسط برنامجاً تشغيلياً بعنوان ”السلام من أجل الازدهار“، تولاه المستشار الرئاسي جاريد كوشنر من زاوية ”أنه يُقدم للفلسطينيين مستقبلا أكثر ازدهارا إذا وافقوا على اتفاق سلام مع إسرائيل“.
ورغم ما أظهرته السنة الأولى من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من نأْيٍ حدّ العداء لبعض تفاصيل صفقة القرن، إلا أن هذه الإدارة وهي لا تستطيع إخفاء ضعف رئيسها، لا تتردد بتعميم الانطباع بأن الشرق الأوسط ليس ضمن أولوياتها، وأن استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية مسألة تخصّ أطرافها أكثر مما هي مسؤولية أمريكية.
وحتى عندما تتشابك ملفات إيران وحركة حماس فإن واشنطن كما يقول مستشار الأمن القومي جيك سوليفان لا ترى مبررا للتخلي عن ”مزيج الردع والدبلوماسية وخفض التصعيد“. وربما من هذه الزاوية تأخذ حكومة الائتلاف الإسرائيلية الحالية مداها المنظور في خيار ”دولة غزة“، وفي التعاطي مع نهج ”الإسلام السياسي“ بعد أن جربته شريكاً في حكومة بينيت/ لابيد وفاجأ الكثيرين في طواعيته المُسْتأنسة.
منصور عباس، القيادي في ”الحركة الإسلامية“ داخل إسرائيل وهي المتسلسلة من حركة الإخوان المسلمين، والتي شكّل دخولها الكنيست حدثا غير مسبوق، صوّتت حركته ضد مشروع قانون يتعلق بإلزامية تعليم اللغة العربية في المدارس اليهودية. قبل ذلك كان عباس وصف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بالمخربين. وقبل يومين، عندما نفّذ أحد كوادر حماس العملية الأخيرة في القدس (بعد ساعات من الحديث البريطاني عن قرار إدراج حماس في قائمة الإرهاب) لم يتردد منصور عباس في إعلان موقفه القديم المستمر بمعارضة حزبه لأيّ هجمات تلحق الأذى بالأبرياء من كلا الجانبين“… مجموعة مواقف أثارت ردوداً متفاوتة قرأ فيها البعض ما يتصل بتجديد إسرائيل مشروع دولة غزة بعُهدة ممثلين للإسلام السياسي، مع تأهيل القطاع بأن يكون دولة قابلة للحياة من خلال رزم مشاريع تنموية تستفيد من التعهدات التي كان جرى الحديث فيها بالورقة الاقتصادية لصفقة القرن، وذلك مقابل هدنة طويلة الأمد تلتزم بها حركة حماس ضمن المفاوضات غير المباشرة التي تجري الآن حول تبادل الأسرى.
كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية من 2005 – 2009، وهي الفترة التي انسحبت فيها إسرائيل من القطاع وأوحت بقبولها فكرة دولة مستقبلية في غزة، عرضت المساعدة الأمريكية في بناء ميناء ومطار.
واليوم إذ يتجدد الحديث والتسريبات عن هذا الخيار، فإن ما تعرضه إسرائيل من تفاصيل الاستعداد والمساعدات في نطاق هدنة طويلة وتبادلٍ للأسرى، يصل حد التخلي عن إلزام حماس بأي موقف سياسي.
لقد استغرق إسرائيل ثلاثين عاما منذ أن بدأت مطالع تسعينيات القرن الماضي التفاوض السرّي مع منظمة التحرير الفلسطينية بشأن اتفاق أوسلو الذي وصل نهايته وهدد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الشهر الماضي، بالتخلي عما بقي منه إذا لم تقدم تل أبيب خلال سنة ما يبرر استمرار اعتراف منظمة التحرير بها.
طوال هذه الفترة أتقنت إسرائيل نهج تعطيل المفاوضات، من أوسلو الثانية إلى واي ريفرز إلى كامب ديفيد وطابا وبقية محطات خريطة الطريق. وفي كل ذلك كانت تتصرف بإستراتيجية إدامة الوضع الراهن باعتبار أن كلفته أقل من تكاليف خيار الدولة الفلسطينية التي مقرها رام الله.
واليوم وقد أصبحت حال الضفة الغربية ترواح ضمن نطاق الحكم الذاتي ومشروع ”أرض واحدة بعمارتي سكن لأُسرتين“، فإن إسرائيل ما زالت تبدو غير مستعجلة على خيار دولة غزة. فمراكز القرار فيها تؤمن بأن أي مفاوضات مع الفلسطينيين ستستغرق ما لا يقل عن 25 سنة، وهي في عمر منطقة كالشرق الأوسط ومتغيراته تسبق يوم القيامة ببضع ساعات، كما يقولون.
“أرم نيوز”