“أوقفوا الكذب…قرّفتونا”
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

في حوار كاريكاتوري، وقف شخص يعاتب صديقه على خذلانه، فقال له: “ولكن سبق أن أعطيتني كلمتك”، فردّ عليه الثاني بجدية: “أعطيتك كلمتي، ولكنّني احتفظتُ لنفسي بالأفعال”.

ذكّرني هذا الحوار، بما كانت تقوله شخصية شغلت موقعاً حسّاساً في قيادة تيار سياسي لبناني، إذ إنّه كلّما جاءها شخص معاتباً لأنّها لم تصدُق بوعدها له، أجابتها: “الوعد لا يُلزِم إلّا من يصدّقه”.

بطبيعة الحال، إنّ الكذب الفاقع ليس حكراً على السياسيين، بل هو قاسم مشترك بين كثير من الناس، في أيّ موقع كانوا، ولكنّ الكذب في العمل السياسي هو أخطر وجوهه على الاطلاق، لأنّه لا يلحق الأذى بأفراد، بل يلحق المآسي بالمجتمع ككل.

ولا يوجد بلد، في أيّ بقعة في العالم، يخلو من الكذب السياسي، ولكنّ حرية الاعلام المحترف من جهة أولى، والتنافس السياسي الحاد، من جهة ثانية، والمحاسبة الانتخابية، من جهة ثالثة، تصعّب مستقبل السياسي الكاذب وداعميه.

وقد أدخلت وسائل الاعلام في دول “العالم الأوّل” تقنية “التحقّق من الوقائع” الى مراقبتها لأقوال السياسيين والمرشّحين، بحيث يتم اعتماد التدقيق الفوري في الارقام التي يقدّمونها، وفي الوعود التي يقطعونها، وفي التهجّم على خصومهم الذي يجيدونه.

وتبيّن لمراكز الدراسات السياسية الجدية أنّ كلفة الكذب السياسي على المجتمع، مرتفعة للغاية، فهو معبَر “الشعبوية” الى السلطة، بكل ما تحمله من موبقات، لجهة احتقار المواطن الذي يسلبه التضليل صوته، ولجهة تغليب المصالح الأنانية على المصلحة العامة، و لجهة تهديم سلّم القيم لمصلحة الوصولية والانتهازية، ولجهة إفقاد القوى الشبابية، شيئاً فشيئاً، ثقتها بجدوى النظام السياسي، ممّا يدفع بغالبيتها، إلى اعتماد الحالات الرفضية التي لها وجوه مختلفة.

وقد أصاب فريديريك نيتشه نقطة حسّاسة، لهذه الجهة، يوم كتب: “ما يسيئني ليس أنّك كذبت عليّ، بل أنّني لم أعد أستطيع تصديقك”.

وإذا كانت دول “العالم الأوّل” تخشى على مستقبلها وسلامتها وتفوّقها من “السياسي الكاذب”، فإنّ دولاً مثل لبنان تكتشف، حالياً، أثمانه الباهظة، محلياً، اقليمياً ودولياً.

ولا يبدو أنّ “حبل الكذب قصير”، كما يقول المثل اللبناني، فقد جرى “تطويله” كثيراً، بتحويله الى سلوك يحظى بقبول اجتماعي، على قاعدة أنّ من يمارسه “ذكي” و”بارع” و”مهضوم” و”يعرف من أين تؤكل الكتف” وخلاف ذلك من الاوصاف والتعابير.

وفي لبنان لم يبق ميدان خالياً من “فرسان الكذب”: مرتزق يزعم المقاومة، لص يزعم الفضيلة، طاغية يزعم الديموقراطية، متعصّب يزعم الانفتاح، مذهبي يزعم العلمانية، أناني يزعم الغيرية، مفلس يزعم الثراء… و”الحبل على الجرّار”.

 

في السابق، كان يمكن احتواء أضرار السياسي الكاذب، لأنّ مفاعيلها كانت مقتصرة على داخل جرى، بفعل عوامل مثل الطائفية والزبائنية، احتواؤها، لكن، منذ سنوات قليلة خرجت الأمور عن السيطرة بفعل التداخل اللبناني-الاقليمي-الدولي.

في هذه السنوات القليلة الماضية، خرج الكذب من إطاره اللبناني الداخلي، لتصبح له تأثيرات عابرة للحدود.

صدرت، في هذا الصدد، انذارات اقليمية ودولية كثيرة، ولكنّها لم تنفع.

ذهب المسؤول اللبناني الى الدول المؤثّرة، وكان يستسهل اطلاق الوعود الكاذبة: تحدّث عن النأي بالنفس فيما كان يقف موقف المتفرّج من “التورط في حروب المنطقة وصراعات محاورها”، وقّع “إعلان بعبدا” قبل أن “يغليه ويشرب ماءه”،  ادّعى فاعلية في مكافحة تهريب المخدرات، فإذا به يعلن “عجزه” حتى عن ضبط المعابر غير النظامية التي رآها الجميع بالعين المجرّدة، وطلب دعماً لخطط سياسية على أساس أنّها تعينه على إحكام قبضته على الداخل، فإذا به يريدها لرفع ثمن استسلامه أمام الواقع المشكو منه.

وقد أدّى هذا الكذب تباعاً الى هروب الاستثمارات من البلاد، والى وضع شروط واضحة لمنح المساعدات الضرورية والقروض الميسّرة، والى قطع الدول الأكثر تضرّراً العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع لبنان.

إنّ الكذب السياسي في لبنان لم يعد مسألة يمكن التساهل معها، لأنّ كلفتها على البلاد والعباد، أضحت فوق قدرة التحمّل والاستيعاب.

ولكن، بدل وضع حدّ لهذا النهج، فإنّه آخذ في التفاقم، بحيث لا تشرق الشمس إلّا وتسري كذبة جديدة.

لسان حال دول العالم في التعاطي مع لبنان، بدأ يصيبه الإرهاق لكثرة ما يردّد، وهو يخاطب المسؤولين اللبنانيين:” أوقفوا الكذب، قرّفتونا”!

زر الذهاب إلى الأعلى