فيروز.. شهرزاد العصر والنسويّة العموميّة
د.نادية هناوي (ناقدة عراقية)
النشرة الدولية –
لأغاني السيدة فيروز عبقٌ خاص يجعل منها ظاهرة فنية فريدة في عالمنا العربي؛ ولا شك في أنّ للأخوين رحباني -وغيرهما ممن كتب ولحَّن لها- الدور المهم في بروز هذه الظاهرة، ولكن قبل ذلك أهمية الصوت الفيروزي نفسه الذي يبقى هو المبتدأ والمنتهى في ذيوع اسم فيروز وشيوع موهبتها التي لها من الملامح ما يجعلها مختصة بها وحدها سواء في صدق إحساسها وعذوبتها أو في دلالاتها الإنسانية الأثيرة مما قد لا نجده مجتمعا أحياناً إلا في الأغنية الفيروزية.
وواحدة من تلك الدلالات تتمثل في الاحتفاء بالذات النسوية من خلال التعابير والمفردات والصور التي تتحدث فيها فيروز بلسان المرأة طفلة وصبية ووالدة وزوجة وعاشقة وربة بيت وفلاحة ومناضلة وعاملة (بأيام البرد وأيام الشتي/ والرصيف بحيرة والشارع غريق/ تجي هاك البنت من بيتنا العتيق/ ويقُلّا انطريني وتنطر على الطريق) مع كثرة الصور النسوية الشفيفة بوجدانيتها والمؤثرة برمزيتها التي فيها تظهر مختلف فئات النسوية (بيتك يا ستي الختيارة بيذكرني ببيت ستي/ تبقى ترندحلي أشعارها والدنيي عم بتشتي/ دارك مثل دارها يا ستي الختيارة/ و?حكي لصبية غيري حكايتها وعم تذكرني وتبكي/ ولن حاكيتيني بكيت وذكرتيني بستي والدوارة يا ستي الختيارة) إلى آخره من الصور التي تكشف عن أهمية العنصر الأنثوي وما يقاسيه في عالمنا الذي فيه الكفة راجحة لصالح الذكورية.
ما دامت الذات الأنثوية هي مانحة الحنان والباذخة بالخير بلا منّة، فلن يستطيع أحد محو هذه الذات. وكيف يمكن محوها وهي التي غالبت الزمان بالعناد وتغلبت على النسيان بالحكي غير راضية بأن تكون منسية أو مغلوبة على أمرها (قعدت الحلوة تغزل بمغزلها/ وكيف غنت للحلو موالها/ شو تغار شو تخبي ولا كانت تشتكي/ وغير القمر ما كان داري بحالها/ وناسية كل الجروح الماضية وراضية)، فالكلام واللحن والصوت الفيروزي المعبر بأنثويته الملائمة لهما هي عناصر منجذبة إلى بعضها بعضاً بتلقائية مغناطيسية، مكوّنة تركيبة نادرة في نسويتها العمومية? وإذا لازمها الخوف من عالم ذكوري فيه الحبيب غير مأمون الجانب بغدره وعناده وتعاليه (حبيتك تنسيت النوم ويا خوفي تنساني/ بشتقلك لا بقدر شوفك ولا بقدر أحكيك/ بندهلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك/ يا خوفي يبقى حبك بالأيام اللي جاية/ ما أتطلع بمرايا حبسي أنت/ أنت حبسي وحريتي)، فإنها عندذاك تتخذ من الصوت سبيلا والنداء أسلوبا في إثبات وجودها (يا بياع الخواتم رح يتركني حبيبي / احبس لي حبيبي بخاتم/ قال لي انطريني برجع بصيفية).
وإذا غدر الحبيب فليس بغريب، لكن الزمان يظل هو الأنيس والذاكرة هي الونيس، ومن خلالها تسترجع الأيام الخوالي (الله معاك يا هوانا يا مفارقنا/ حكم الهوى يا هوانا وتفارقنا/ يا حزني السعيد انتهينا وتودعنا)، وكل جزء من الطبيعة يناغي أحاسيسها ويناجي أحلامها، مستعيدة الثقة بذاتها أمام زمان لا ثقة فيه (يا شجرة الأيام غيرنا الهوى/ يا ناطرة وحدك على مهب الهوى/ مثلك أنا شجرة على مفرق طريق).
وكثيرة هي الأغاني التي نلمس فيها الصوت الفيروزي يتحدث بلسان ذات أنثوية فيها تتجلى ملامح البراءة وسمات النجابة والوفاء، تشترك في صنعها مجموعة صور (كنا نتلاقى من عشية/ بتذكر شوا حكيوا علي/ لما نطرت وأنت نسيت/ وصار الشتي ينزل علي/ وإجا الصيف وأنت ما جيت)، وهذا كله من قبيل السهل الممتنع وبسلسلة تنغيمات عذبة هي من وحي فلكلور إنساني عام ذي إيقاعات نديّة يتعمق أثرها في النفس بالكلمات الشاعرية التي تنعكس في ذهن السامع على شكل مشاهد حية ومرئية تصنعها مجموعة تفاصيل معبرة عن نسوية صوت فيروز (يا حبيبي أنا عصفورة الساح?ت/ أهلي نذروني للشمس وللطرقات/ يا حبيبي لسفر الطرقات/ لصوتك يندهلي مع المسافات/ ويسال عليّ حبيبي/ بليال الشمال الحزينة).
ولا خلاف أن تظل هذه النسوية مرافقة فيروز طيلة مسيرتها الفنية وعلى اختلاف مراحل تطور أغنياتها وتنوع أبعادها. ولقد هجس الأخوان رحباني حقيقة الذات الأنثوية في داخل فيروز وأدركاها وعرفا بذكاء كيف يظهرانها ويجعلانها تنطلق للعالم مضفية عليه ما ينقصه من نقاء ومعيدة إليه ما فقده من براءة وصفاء. وبالفعل استطاعا أن يجاريا نسويتها ويطلقا ما كمن فيها من طاقات إبداعية ترجماها في شكل أغان ومواويل يطرب لها من يدرك معناها ومن لا يدركها أيضا، وهذا جزء من سحرية تفرد الصوت الفيروزي وتميزه.
وعلى الرغم من أن عالمنا العربي شهد أكثر من ظاهرة غنائية في القرن العشرين وربما أيضا في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، بيد أن الظاهرة الفيروزية تظل هي وحدها مستمرة كالنهر، قد تتفرع عنه غدران وجداول وترع، لكن ذلك لا يؤثر في جريانه ولا ينقص من تدفقه، بل هو يزيد هذا النهر عمقا وبهاء وامتدادا بكثرة من يؤدي أغاني فيروز من المطربين والمطربات من العرب والأجانب.
ولأن ما تحمله الأغاني الفيروزية من سمات نسوية هي الطاغية على أي سمات أخرى، يغدو استمرار نهرها انتصارا للمرأة -كما انتصرت شهرزاد في جريان نهرها، فهذه (فيروز) بغنائها وتلك (شهرزاد) بسردها- ككيان ليس له في حياتنا للأسف سوى التابعية وليس للذات النسوية من مناصر سوى مجموعة لوائح وبيانات وقوانين هي في جزء منها مصوغ بروح ذكورية لا يريد للمرأة أن تعتلي ويكون لها شأنها إلا وهي ضمن حاضن عام وتاريخي يفرض عليها ما يقلّص إمكانياتها، ويوجب عليها ما لا يعينها على التعبير عن مواهبها ولا يكشف عما تحمله النساء جميعا من خير ل?عالم يتجلى في كل امرأة بطريقة خاصة قد لا تشابهها فيها امرأة أخرى. وهو ما نلمسه في أغان كثيرة منها أغنية «لو كان قلبي معي» (لكنه رغب في من يعذبه وليس يقبل لا لوما ولا عدلا/ دع عنك ذا السيف الذي جردته/ إن شئت تقتلني فأنت محكم من ذا يطالب سيدا في عبده)، أو أغنية «سألوني الناس» (غمضت عيوني خوفي للناس/ يشوفونك مخبي بعيوني/ ولا تسألني كيف استهديت/ كان قلبي لعندك دليلي/ واللي اكتوى بالشوق اكتوى لأول مرة ما منكون سوا).
ولنا أن نتصور كيف تنعكس النساء بمجموعهن والمرأة بفرديتها في شكل إيحاءات طربية تبثها الأغاني الفيروزية بحميمية رومانسية (مملكتي أنا مملكة الموعودين/ بالحب وبالفرح يا اللي جاي/ مع الناس اللي جايين/ لأجل السعادة لأجل الأطفال)، وبكثير من الدقة الواقعية التي تطرق المسامع برقة فتلهب المشاعر بعمق ويتأكد الوعي بكيان المرأة (يا زهرة الجنوب يا عصفورة البكي/ يا صغيري اغفري لي/ ويلي بيوجعني أني التهبت وانشغلت عنك) من ناحية ما لها من القوة والشدة الممزوجتين بالرقة واللطافة والتي هي بمثابة خصوصية تجعل للمرأة شأنا جماليا، يُحسِن التعبير عنه ويأخذ بتلابيبه تردّ?دُ ذبذبات الصوت الفيروزي ذي المفعول الذي قد لا يضاهيه مفعول أقوى البيانات المدافعة عن المرأة والمنادية بحقوقها.
وهذه هي نسوية فيروز العمومية، نسوية المرأة في إنسانية كيانها وأنثوية النساء في بسالة أداورهن المجتمعية وقوة شكيمتهن وهن يواجهن مصاعب الحياة بعزيمة وإصرار بوصفهن محور هذه الحياة وهن الصانعات لها، حيث كيان الواحدة منهن تمثلها الكليّة النسويّة، وفرديّة هذه الكلية يمثلها كيان المرأة نفسها في خصوصيتها (لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير/ بنطر بعين الشمس ع برد الحجر/ وملبّكي وايد الفراق تهدني يا طير/ خذني ولو شي دقيقة وردني يا طير).
وقد يخيل لبعضنا أن هذه النسوية تتجلى فقط في الأغنية الفيروزية ذات الكلمات الشعرية الشعبية العامية، ولكن الحقيقة أن هذا التجلي واحد؛ سواء في القصائد المكتوبة باللهجة الشعبية أو في القصائد الفصيحة من الشعر العربي القديم والحديث، لنأخذ مثلا قصيدة «يا حبيبي كلما هب الهوى» التي فيها تتحول القصيدة إلى أنثى يعلو صوتها بصداح الحنجرة الفيروزية (لفّني الوجد وأضناني الهوى كفَراش ليس يدري ما به/ لمّني من وحشة العمر كما لمّت النسمة عطر النرجس)، ولا مناص من أن تكون المرأة في هذه الكليّة واحدة موحدة، لها فرديتها التي تعب?ر عنها من خلال المجموع. وإذا كان للنسوية العمومية أن تتمظهر في مختلف أشكال الأغنية الفيروزية كمواويل واسكتشات ودبكات، فإن الأسى وضيق اليد وقسوة الإنسان والزمان لا تغيّر من صفاء الذات المؤنثة ونقاء سريرتها ورغبتها في أن تمنح عطاءها من دون منة أو خيلاء، ولعل أغنية «بكتب اسمك يا حبيبي» تختصر كل الغطرسة الذكورية وتعبّر في الآن نفسه عن هذا الفيض النسويّ الإنساني المتدفق بلا انتهاء (بكتب اسمك يا حبيبي عَ الحور العتيق/ بتكتب اسمي عَ رمل الطريق/ وبكرة بتشتّي الدني على القصص المجرّحة/ يبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى).