التعبير المثالي للكرامة
بقلم: كرم نعمة
النشرة الدولية –
“الكرامة” أول مفردة سمعتها من مسؤول عراقي سابق كان قد حصل على اللجوء السياسي في بريطانيا، وهو يعبر لي عن سعادته بقبوله مع أسرته لاجئا عراقيا قبل أكثر من ربع قرن.
قال دعك ممن يتحدثون عن المكاسب الشخصية الأنانية التي سيحصلون عليها من منافع اللجوء، أهم مكسب بالنسبة إليّ أن أكون مع أسرتي هنا، هو كرامتي المستعادة والتي ليس بمقدور أي كائن في هذا البلد أن يمسها، كما يحصل في بلداننا العربية.
هذا الرجل لم يفرط بـ”الكرامة” التي استعادها قبل أكثر من عقدين في بلاد اللجوء، مع أنه عاد إلى بلده الأصلي بعد أن تغيرت الأوضاع ويتقلد اليوم منصبا حكوميا رفيعا. بقي متشبثا بتلك الكرامة التي حصل عليها في بلاد جلالة الملكة إليزابيث الثانية والتي أبقى أسرته في كنفها، بينما مثلت عودته لبلاده الأصلية مجرد فرصة عمل سواء طالت أو قصرت!
يبدو لي هنا أن تعبير “الكرامة” مثالي عند التحدث عن مشكلة الهجرة التي بات الأوروبيون يقلقون منها أكثر من أي وقت مضى مع موجة اللاجئين على الحدود البولندية. هناك ما يمكن أن نسميه بـ”الرعب” الأوروبي من جاذبية بلدان الاتحاد للمهاجرين من دول كانت تعيش السلم أم واقعة تحت وطأة الحرب.
ويمكن فهم تلك الجاذبية وفق دلالة “الكرامة” أيضا تلك المفردة الإنسانية المثيرة للعواطف في تاريخ البشرية. لأنه لم يعد بمقدور هؤلاء الأشخاص المحافظة في أقل اعتبار على كرامتهم في الأوطان التي ولدوا فيها، صاروا يبحثون عن تلك الكرامة المهدورة في بلدان الاغتراب الأوروبي.
صحيح جدا، أن القادم إلى تلك البلدان لن يعيش في كنف نعيم تفترضه القصص والأحاديث المسبقة، وعليه أن يشقى ويحصل على فرصة عمل صارت نادرة لسكان البلد الأصليين. وصحيح أيضا أنه سيعيش أزمة نفسية قاتلة بسبب الاغتراب الذاتي وصعوبة الانصهار في مجتمع مختلف كليا عن طريقة تفكيره، وصحيح أنه سيشعر بالخجل الدائم لأنه لا يستطيع إيصال أفكاره بلغة سليمة تجعل أبناء البلد الأصليين يفهمون كيف يفكر هذا القادم إليهم مع أنه على درجة عالية من التعليم. كل هذا وغيره الكثير صحيح للغاية في حياة المهاجرين إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، لكن مئات الآلاف منهم سيتحملون كل هذا الأسى والخيبة الذاتية، لأن كرامتهم ستبقى مصانة في النهاية عندما يمارسون دور المواطن السوي.
وصحيح أيضا أن نسبة كبيرة من هؤلاء المهاجرين، يلفقون قصصا غير حقيقية من أجل القبول بهم كلاجئين، وأنهم مجرد مجموعة من الأفاقين والباحثين عن مصالح مادية، ولا توجد لديهم أي مشكلة في بلدانهم الأصلية. وهؤلاء يمكن اعتبارهم بلا كرامة أصلا، لذلك لا يهاجرون بحثا عنها.
لا يمكن اختصار مفهوم استلاب كرامة الإنسان بالقمع السياسي وحده، بل إن كرامة المواطن العربي تهان يوميا لأنه يعجز عن الحصول على قوت يومه. ربة البيت تهان وهي تنتظر في طابور طويل لساعات من أجل الحصول على أسطوانة غاز تطهو عليها الطعام لأسرتها.
رب العائلة القادم المنهك من يوم عمل طويل ينتظر لساعات مضاعفة كي يجد له مكانا في مركبة نقل عمومي تنقله إلى المنزل.
الكلام السياسي الذي تتناوله وسائل الإعلام الغربية بأن الحاكم القوي لبيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، استدرج الأشخاص اليائسين من الشرق الأوسط وأفريقيا بوعد الدخول السهل إلى الاتحاد الأوروبي عبر الحدود البيلاروسية – البولندية، لا يعبر عن الحقيقة الكامنة في اليأس الذي يشعرون به. فسبق استدراج لوكاشينكو، أن غامر الملايين من اليائسين هربا من بلادهم، مع أن بعضهم كان يدرك أن نسبة غرقه مع صغاره تفوق نجاته، ومع ذلك ولج هذا الكابوس ولم ينتظر استدراج الحكومة البيلاروسية.
بطبيعة الحال، هذا الكلام لا يعني أنه تحريض على تشجيع ترك البلدان العربية في رحلات غير مأمونة العواقب بحثا عن الكرامة المهدورة، بقدر ما يدين الحكومات العربية الفاسدة والفاشلة في تأمين العيش الكريم لشعوبها.
كذلك كشفت أزمة المهاجرين أن المزاج السائد في أوروبا يتسم بالذعر. والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي محاصرة بالفجوة المتزايدة بين خطاب بروكسل النبيل والسياسة الواقعية التي تمارسها الدول الأعضاء. عندما يدفع المسؤولون ضريبة لغة السمو الأخلاقي والإنساني المجردة من أي دعم واقعي، بينما بقيت حشود اليائسين بين حصار الجنود البولنديين والبيلاروسيين.
سارعت بروكسل إلى الوقوف خلف بولندا في مواجهتها مع النظام البيلاروسي لأنها خائفة من العودة إلى الانقسامات التي اندلعت في أزمة اللاجئين عام 2015. ومع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي بعيد كل البعد عن مفهوم الاتحاد. فتحت الحكومة البولندية حربا على جبهتين، معركة لوقف المهاجرين على الحدود، لكنها تقاتل أيضا لإثبات أن وارسو ليست بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي من أجل الدفاع عن حدودها.
ثمة مفارقة جسدتها القوة الناعمة لقادة الاتحاد الأوروبي، تكمن في شعورهم بالعجز عن مساعدة أولئك المهاجرين، فلم تظهر من بينهم أنجيلا ميركل جديدة بعد تدهور السلطة الأخلاقية للسياسيين، بنفس المستوى الذي يعبر عن خشيتهم من صدمة عودة الشعبوية اليمينية المناهضة للمهاجرين، والتي يمكن أن تكون أكثر فتكا بالديمقراطيات الأوروبية من أي موجات هجرة جديدة.
مع ذلك فهؤلاء المهاجرون لا يأتون فارغي الأيدي وفق تعبير عبدالرزاق قرنح، فإذا كان هذا النوبلي الأخير يمثل ثروة أدبية لبريطانيا بلد كرامته، فلماذا لا يمكن النظر إلى هؤلاء اللاجئين بأنهم أشخاص موهوبون ومفعمون بالطاقة.
صحيح أنهم يأتون بدافع الضرورة، لكنهم أيضا يملكون ما يقدمونه لبلدانهم الجديدة، وفق قرنح.
في النهاية أوروبا مرعوبة من جاذبيتها بمجرد الرغبة المتصاعدة لفكرة أن العديد من الناس في العالم يريدون العيش مثل شعوبها. فيما يبقى الحلم العربي معطلا عن تحول تلك الأوطان إلى مصدر استقطاب في هجرة معاكسة من أوروبا إلى الشرق الأوسط! وبنفس جاذبية دول الاتحاد الأوروبي اليوم. كم يبدو هذا الأمل فنتازيا من مشرق العالم العربي إلى مغربه ونحن نقرأ ما قاله أحد المهاجرين لوكالة الصحافة الألمانية وهو من بين بضعة آلاف ما زلوا مرابطين على الحدود البولندية “بالتأكيد نحن لا نرغب في الذهاب إلى العراق والبقاء هناك حتى يتم السماح لنا بدخول الاتحاد الأوروبي”.