التواطؤ على السردية الغلط
بقلم: مصطفى أبو لبدة
النشرة الدولية –
في مثل هذا الوقت قبل خمسين سنة اغتيل رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، برصاصة قنّاصٍ محترفٍ مجهول جاءته من الخلف.
لكن فرقة الاغتيال التي كانت خرجت من بيروت بهدف اصطياده في القاهرة، أعلنت مسؤوليتها عن الذي لم تنجزه هي. فكانت النتيجة مفارقات صنعتْ مشهدا جديدا في المنطقة، تناسل على مدى خمسة عقود بفائضٍ مٍنْ ريَب التواطؤ ومن الشواهد على أن الأمور تزداد سوءا.
حادث الاغتيال حصل على درج فندق شيراتون في القاهرة، حيث كان التل يشارك في مؤتمر لوزراء الدفاع العرب، فيما كانت الفرقة المكلفة بالاغتيال تنتظره في لوبي الفندق.
تقرير الطب الشرعي المصري جزم يومها بأن الوفاة حصلت بفعْل رصاصة طالته من الخلف من مكان مرتفـع ولم تكن من رصاص المسلحين الذين أعلنت متحدثة غامضة على الهاتف أنهم ينتمون لمنظمة ”أيلول الأسود“ الفدائية الفلسطينية، وأبلغت بذلك وكالات الأنباء، فكانت قصة إخبارية مبنية على معلومات غير صحيحة، ترتبت عليها تداعيات سياسية ثقيلة معروفة في ملف القضية الفلسطينية، ما زالت تتوالى.
لكن القصة السياسية الأخرى المستحقة، والتي تنبشها المناسبة، هي كيف ولماذا تراضى جميع ذوي الصلة، على تجاهل حقيقة أن الذي قتل التل هو قناص مجهول الهوية كان في البناية المقابلة للفندق، وليس مسدسات المسلحين الذي كانوا ينتظرونه وجاهيا داخل الفندق.
مناط القصة ليس تبرئة الذين خرجوا من بيروت لتنفيذ عملية اغتيال يجرّمها مجرد الشروع بها، وإنما توثيق التواطؤ السياسي والإعلامي على إدامة سرْديّةٍ مُفخخة بهذا الحجم. وأيضا تقصي الأسباب التي جعلت أجهزة المخابرات الدولية ذات الصلة المفترضة، تستثني ملف القناص الذي طال وصفي التل من النشر، ضمن الإفراج الدوري عن الوثائق السرية الأمريكية والبريطانية، وهو الذي تكرر طوال العقود الخمسة الماضية.
معرفة الجهة التي اختارت أن يكون تغييب وصفي التل على يد قناص محترف ضمانا بالحد الأقصى لدقة الإصابة، قد تفك لغز الرجل الذي وُصف بأنه قصير ممتلئ، شوهد قبل الحادث بفترة قصيرة يمر على المكلفين بإطلاق النار في صالة الشيراتون ويوزع عليهم المسدسات التي تبين أنها معاقة.
فالهدف المُركّب لتوليفة الاغتيال، كما بدت في تنفيذها المحترف، كان أوّلا تغييب وصفي التل، برصاصة واحدة مُحْكمة، وصفها تقرير الدكتور كمال السيد مصطفى كبير الأطباء الشرعيين في مصر بأنها جاءته من الخلف المرتفع، اخترقت عضد ذراعه اليسرى من القفا، ثم اخترقت جذعه طوليا حتى خرجت عند أعلى الفخذ اليمنى.
والهدف الثاني لتوليفة الاغتيال أن تعلن منظمة أيلول الأسود مسؤوليتها عن اغتيال أرادته ونفذه غيرها.
وكانت المفاجأة، حتى بالنسبة للذين رتبوا لوجستيات فرقة الاغتيال، أنهم وجدوا أمامهم ماكنة إعلامية عربية ودولية كاسحة تتجاهل بيان الطب الشرعي الذي يفتح المجال واسعا للتكهن بدور دول ومخابرات أخرى لها مصلحة في تغييب التل، وتعتمد سردية أيلول الأسود، بتكريسٍ مسكوتٍ عنه، ما زال سائدا حتى اليوم.
جهات عديدة كان لها، في حينه، مصلحة بأن يخرج وصفي التل من اللعبة. كان صلبا بعناد، ليس فقط في حصانته ضد الفساد وإنما _أيضا_ في إقامته الموصولة، منذ مشاركته في حرب 1948، عند الذي كان يسميها ”المعركة النموذجية“ لإزالة إسرائيل.
في عام 1967 أصدر كتابا بعنوان ”فلسطين.. دور العقل والخلق في معركة التحرير“، وظل يقيم عند هذه القناعة، حتى وهو يشهد ويحزن لكون ما يتحدث به لغة سياسيةغير مفهومة .
وعندما قتِل، كان خارجا من اجتماع لوزراء الدفاع العرب طرح فيه مشروعا لإحياء الجبهة الشرقية ،طليعته تنسيق عسكري أردني مع المنظمات الفدائية.. كان يراه كفيلا بالتحرير، فيما كانت تراه معظم إن لم يكن كل الوفود العربية حَمْلاً للسلم بالعرض، وفي زنْقة الوقت الحرج.
كانت دول الجبهة الشرقية التي يدعو هو لإحيائها عادت لتنخرط في دورة جديدة من دورات التفاوض السري ومشاريع التسوية الأمريكية التي رعاها مستشار الأمن القومي الأمريكي، هنري كيسنجر. ولذلك كان التل أضحى ”عبئا حتى على أصدقائه“، حسب ما علّق السفير البريطاني في الأردن، آنذاك، جون فيليس، وهو يترحم على وصفي ويختصر فهمه لأسباب اغتياله.
لم يقل السفير البريطاني علنا من هم أعداء وصفي التل أو أصدقاؤه الذين كانت لهم في العمل الاستخباري قدرة توليف عملية اغتياله بالمواصفات المُركبة التي حصلت بها. ربما أن السفير في حينه لم يكن يعلم.
لكن مستشار الأمن القومي بشأن الشرق الأوسط لدى المخابرات المركزية الأمريكية، في حينه، بروس ريدل، يصعبُ التصور أنه لم يكن يعرف.
في كتابه الأخير بعنوان ”خمسون عاماً بعد أيلول الأسود في الأردن“، يستذكر ريدل ثلاثين عاماً من الخدمة في المخابرات المركزية بعضها في الشرق الأوسط.سجّل تقييمات منتقاة لمحطة ال سي آي إيه في عمّان، أثناء حوادث ايلول وما أعقبها من اغتيال وصفي التل. وكشف في المقابل عن أن ضابط المخابرات روبرت آميس، كان وبمعرفته الرئيس ريتشارد نيكسون، أقام علاقة سرية خاصة مع ”واحد من مساعدي ياسر عرفات الرئيسيين“، لم يذكر إسمه. لكنه نأى وبشكل مُلفت عن قصة اغتيال وصفي التل ولغز القناص.
أيضا مدير محطة المخابرات المركزية الأمريكية في عمّان خلال حوادث أيلول، جاك أوكونيل، تجنب في مذكراته أن يتطرق لهذا الموضوع. روى في كتابه المسمى ”مجلس الملك“ (ويقصد به مجلس الملك حسين) ذكرياته من عشرين سنة حافلة بالحروب والتجسس والدبلوماسية، أمضاها في الشرق الأوسط. قفز في ذكرياته عن قصة كبرى من سويّة القناص الذي طال وصفي التل، لكنه كرّر في غير موقع قناعته بأن الملك حسين تعرض للخيانة من الطرفين اللذين طالما زعما صداقته.. أمريكا وإسرائيل
في إيجازه لصورة المنطقة كما عايشها وشارك سرّا في تصنيعها، اعترف ضابط المخابرات الأمريكي أن ”الكثير مما تم إنجازه على مدى الخمسين أو الستين عاما الماضية في الشرق الأوسط كان مبنيا على الأكاذيب“.
عن موقع “إرم”