شهادة على الحياة ما قبل الاتحاد
بقلم: تاج الدين عبد الحق
النشرة الدولية –
لم يكن قد مضى عامان على قيام دولة الإمارات العربية المتحدة عندما وصلت إلى أبوظبي باحثا عن فرصة عمل. لم تكن لدي صورة واضحة عما ينتظرني، فصورة الحياة في أبوظبي بالتحديد، ودولة الإمارات بشكل عام، كانت تتشكل تبعا لظروف الأشخاص وتجاربهم الذاتية، ولم يكن في الإعلام ما ينبئ عن الواقع المعيشي الفعلي، وكان التركيز الإعلامي ينصب على ما ينتظر التجربة الوليدة من فرص تنمية واعدة، وازدهار اقتصادي كبير، لا على ما تعيشه من صعوبات وما ينتظرها من تحديات.
كان الواقع صادما للوافدين الجدد، حتى للذين جاءوا من دول فقيرة نسبيا في مواردها، وفرص العمل لديها. أول ما كان يصطدم به الوافد الجديد أزمة السكن الخانقة، التي كانت تجعل من أي أربعة جدران حتى لو كانت مبنية من سعف النخيل ومسقوفة بألواح الزينكو مسكنا يتنافس عليه الباحثون عن سكن وهم الغالبية الكبرى من السكان. كانت أعداد المواطنين في المدينة قليلة، ولاتساعد على تكوين الهوية الوطنية للعاصمة، ناهيك عن الدولة ككل.
كانت أزمة السكن واحدة من سلسلة أزمات من العيار الثقيل وغير المسبوق أو المعروف للوافدين الجدد. فإلى جانب شح المساكن، وهشاشة بنائها، وانعدام المرافق الأساسية في معظمها، كانت هناك أزمة كهرباء أين منها أزمة الكهرباء في لبنان الآن. كانت حركة البناء النشطة والوتيرة السريعة للقادمين من الخارج عبئا على محطات توليد الطاقة ومحطات تحلية المياه القليلة التي بنيت على عجل؛ لمواجهة الطلب الذي كان يتزايد بسرعة تفوق أضعاف قدرة تلك المحطات، وتقل كثيرا عن الاحتياجات الحقيقية للسكان.
كانت الكهرباء بالنسبة للقادمين الجدد بمثابة شريان حياة، خاصة لأولئك الذين لم يتعودوا على درجات حرارة تصل في الصيف الحارق إلى 50 درجة مئوية، وكان شح المياه يفاقم من أزمة الكهرباء، فالمياه التي توفرها محطات التحلية بالكاد تكفي الحاجة العادية، فما بالك بالاحتياجات الاستثنائية التي تقتضي من الناس الاستحمام والغسيل أكثر من مرة باليوم.
حولت أزمات السكن والكهرباء والماء المشاريع الإنشائية الكثيرة التي كانت الحكومة تسابق الزمن لإنجازها إلى مشاريع مؤقتة. فالمجمعات السكنية التي أريد لها أن تكون حلا لمشاكل الناس تحولت هي ذاتها إلى أزمة. فقد بنيت دون مواصفات فنية مناسبة، فتصدع معظمها سريعا بسبب ضعف البنية التحتية، أو بسبب اكتظاظها وبدأت جراء ذلك التصدع، مياه الصرف الصحي تتحول إلى بحيرات من المياه الآسنة تتواصل مع الشوارع الرئيسة بممرات طينية ضيقة.
وحتى المرافق الخدمية من شوارع ومدارس ومحطات تحلية وكهرباء، والبنايات التجارية التي كانت ترتفع باستمرار، والتي كانت تبدو بالقياس للمساكن مشروعات أكثر ديمومة ما لبثت بعد سنوات قليلة أن تحولت هي نفسها إلى صيغ إنشائية مؤقتة تطلبت التغيير والتبديل. فالشوارع التي كانت ضيقة لا تزيد الحارات الرئيسة منها على حارتين في كل اتجاه، ما لبثت أن احتاجت إلى تبديل جذري حوّل حتى الشوارع الفرعية منها إلى شوارع فسيحة بثلاث أو أربع حارات في كل اتجاه فضلا عن جزيرة واسعه بينهما. والدواوير التي كانت وسيلة تنظيم حركة المرور باتت بعد سنوات عقبة في علاج الازدحام، وكان لابد من هدمها واستبدالها بإشارات مرورية وجسور علوية، وانفاق تحت الأرض.
هذا الجو المشحون بطموح لا حدود له، والمثقل باحتياجات لا حصر لها ترك حالة من الاضطراب على حركة العمالة الوافدة التي تدفقت بلا ضابط تقريبا، وخلّف وجودها غير المنضبط كثيرا من الأزمات الحياتية ليس أقلها الضغط على مرافق الخدمات، بل وضعت الدولة أمام تحديات اجتماعية وأمنية تتجاوز في كثير من الأحيان الإمكانيات البشرية المتواضعة التي كلفت بمعالجتها.
كان الخيار المطروح أمام الحكومة، إزاء كل تلك الأزمات، أحد أمرين: إما وضع قيود على حركة الإنشاء والأشخاص وربطها باحتياجات اللحظة الراهنة، أو الاعتماد على رؤية بعيدة المدى وتحمل مخاطرها.
اختارت الإمارات بلا تردد الرؤية البعيدة، رغم أنها بدت للبعض بأنها رؤية خيالية وغير واقعية فضلا عن أنها مكلفة ومحفوفة بمخاطر أبرزها تهديد الهوية الوطنية.
كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس الدولة كتجربة وحدوية، ومسيرة تنموية، هو من قاد فكرة الطموح بلا حدود وكان يرى أن ما ينتظر الإمارات أبعد بكثير مما يراه ماثلا أمامه، ولم تقلل التحديات التي كان يواجهها إن على الصعيدين السياسي والأمني أو على الصعيد التنموي من مثابرته، ولم تضعف من عزيمته. كنا نحن الذين نتابع التجربة من ”مدرجات المتفرجين“ نرى في بعض المشاريع والمبادرات ترفا وإسرافا لنتبين بعد أن طال بنا المقام أنها شكلت قيمة مضافة غابت عنا في تلك اللحظة، ووجدنا فيما بعد أنها أسهمت في تغيير وجه الحياة في الدولة وحولتها إلى نموذج تنموي تتسابق الدول الأخرى لمحاكاته والسير على منواله.
عندما نستذكر هذه البدايات ونحن نعيش أفراح اليوبيل الذهبي لدولة الإمارات، نكاد لا نصدق ما تعيشه الإمارات واقعا فعليا. ولولا أننا كنا شهود عيان على كل ما تحقق من إنجازات، لوجدنا صعوبة في استيعاب التحول الكبير الذي حدث في كل مظاهر الحياة الإماراتية، خلال فترة قياسية كانت أشبه بحلم نأمل جميعا ألّا نفيق منه.