حسني عايش.. يَكشف «عصرَ ما بعد الحقيقة» ويَرفض «فحوص الذكاء»
بقلم: محمد خرّوب
النشرة الدولية –
يواصِل التربوي والباحث التنويري الأستاذ حسني عايش, المُشتبِك الدائم بل المُحارب الباسل للقوى والأفكار الظلامية كما العادات والتقاليد البالية, والرافض بعناد لكل «البِدع» الغربية التي يتلقّفها بعض التربويين في دول العالم الثالث, وعلى رأسها بلاد العرب ورهط المُعجبين بالثقافة الإستهلاكية الغربية وخصوصا منتجاتها الأكاديمية/والتربوية, غير المُتوافقة مع علوم العصر الحديث والخصوصيّات الثقافية والاجتماعية لتلك المجتمعات, وباتت الآن في حاجة الى المراجعة والتقييم, في ضوء ما تركته مُخرجاتها من آثار سلبية على الطلبة والبيئة التربوية.
جديد «إنتاج» الأستاذ عايش بما يتوفّر عليه من قدرة لافتة على المُتابعة الحثيثة والشغف الدوؤب بالشأنيْن..التربوي والثقافي/كما السياسي, المرتبط بهموم العصر ومشكلاته. «كتابان».. عنوان الأول منهما:”عصر ما بعد الحقيقة» والثاني جاء عنوانه على النحو التالي:لا للجوائز ولا لفحوص الذكاء. صدرا مؤخرا عن دار الشروق في عمان ورام الله.
عصر ما بعد الحقيقة حمل عنوانا فَرعيا يقول «كيف تحمي/ نَ نفسك من التضليل المعلوماتي والعلمي. وأحسب ان الكاتب استطاع بمهارة وأسانيد حِسّية ومصطلحات تكشف زيف عصر الأضاليل المعلوماتية والعلمية, على نحو ينسجم مع الهاجس الذي «لعِب بعقل» المؤلف لسنوات طويلة. لكن ما دفعه للتسريع بإتمام كتابه ونشره, هو وصول دونالد ترمب «الكذّاب الكبير» (كما يَصِفه الكاتب في غير مكان من كتابه).. الى سدة الرئاسة الأميركية.
خاصة ان كاتبنا قصدَ «تنبيه القارئ الى طبيعة هذا العصر وموضوع واساليب التضليل فيه, فلا يقع ضحية له, ولا يُمارسه ولا يمرّ عليه كي ينجو من التضليليّن». هنا يلفت المؤلف الى أنه اتّخذ الساحة الاميركية مثلا ومصدرا لهذا العصر او لهذا التضليل, وموضِعا لكتابه. وأحسب انه بذلك كان موفقا ودقيقا, ليس فقط لأن اميركا بما تُمثّل ومّن تمثّل, ساحة تفيض على العالم ويُخدّع بها..تُردّده شعوبه وتستشهد به وتُقلّده, بل وايضا لأن واشنطن واذرعتها الإعلامية الضخمة ووسائل دعايتها وقواها الناعمة وسطوتها السياسية, قادرة على فرض روايتها وتمرير سرديّتها المُضلِّلة في غالب بل معظم الاحيان.
يقول الاستاذ عايش في كتابه الذي يصعب على مُعقب عليه او ناقد, او متضامن ومؤيد لإطروحته.. ان يُلخصه او يقتبسه الإ بمشقة, كونه ينتهج في سرديته اسلوب رياضة التتابع في الألعاب الأولومبية, لا يسمح حتى بالتقاط الانفاس: «قبل عصر ما بعد الحقيقة, كان الناس الذين يكتبون في موضوع معين, يفعلون ذلك لأنهم اكتسبوا درجة من العلم او المعرفة المتخصصة او الخبرة, اي بعد دراسة الموضوع وقراءة الكثير من الكتب حوله, او بعدما كشفت ملاحظاتهم المقصودة وتجاربهم التالية فيه, واعتقدوا انه ربما صار لديهم ما يضيفونه».
نماذج كهذه كما هي حال صحافة العهود السابقة, التي «كان» يوجد فيها رئيس تحرير, ومحررون لكل صفحة ومدققون للأخبار في الوسائط السابقة للإنترنت كالإذاعة والتلفاز, جاء الإنترنت ليقضي على هذه نماذج. إذ ان «دَمقرطَته» للمعرفة..يُضيف الكاتب, أتاح لكل من هبّ ودب المشاركة فيه, ومع ان لذلك فوائد يعترف المؤلف, الا انه اتى بأضرار شتّى بـِ«جوجل وفيسبوك وويكيبيديا», كما يقول توم نيكولس, التي قضَتْ على اي فصل بين العلماء والناس العاديين, وبين الطلبة والعارفين والمندهشين. اي بعبارة اخرى تُلخص المشهد الذي بتنا فيه وعليه:.. «بين أصحاب الإنجاز والجاهلين».
لا تختزل الإقتباسات السابقة كل الجديد والمفيد, في ما اورده الأستاذ حسني في كتابه المهم, إلا انها أضاءت على بعض ما انطوى عليه. ما يستوجب وبالضرورة قراءته والإستمتاع بذخائره.
يحفل الكتاب الثاني الموسوم: «لا للجوائز ولا لفحوص الذكاء», الذي نصحَ المؤلف «كل أب وأم ومُعلم ومُعلمة».. بقراءته والإطلاع على محتوياته، بكثير من الأمثلة والاقتباسات والمواقف الناقدة بِحدة وشِدة أحيانا للنظرية السلوكية, التي ترى ان افضل طريقة لإنجاز عمل ما, تقديم جائزة او مكافأة «اي حافز خارجي» للناس ليتصرّفوا حسب ما تريد.
وإّذ يلفت كاتبنا الى انه لا يرى في كل الجوائز والمكافآت والحوافز الخارجية نذير خطأ او خطر, غير انه يؤكد على ان المشكلة «تكمن في الممارسة”, اي في استخدامها للسيطرة على الناس ومعاملتهم بها كالحمام والكلاب والقطط. المشكلة ـــ يُضيف عايش ــ في المتطلبات التي يجب على الطفل او على التلميذ/ ة او على الموظف/ ة او على العامل/ ة القيام بها ليحصلوا على الجائزة او المكافأة.
المشكلة.. هي إعطاء الجائزة او المكافأة كحافز خارجي للحصول عليها, لـ«يُذعنوا او ليتصرفوا كما نريد, مع انها ليست الطريقة التي يعمل بها العالم. إنها ليست قانونا من قوانين الطبيعة البشرية», يؤكد الكاتب, ويمضي لافتا نظرنا الى مسالة غاية في الاهمية بل هي صلب الفكرة التي قام عليها الكتاب وحفزت الكاتب, وهي الإضافة التالية:»..قد تبدو للبعض هذه الطريقة طبيعية, ولكنها في الحقيقة او في نهاية التحليل.. تعكس ايديولوجيا معينة, يمكن مناقشتها وفحصها و..دحضها».
في الخلاصة.. احسب ان في قراءة الكِتابيْن.. مُتعة المعرفة وجاذبية التفكير النقدي.