الانقلاب الطالباني في أفغانستان كشف عن ثغرة غربية
فشل أجهزة الاستخبارات في توقع ما حدث يثير علامات استفهام كبيرة
النشرة الدولية –
نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” (Wall Street Journal) تقريراً خطيراً حول إقامة شبكة استخبارية أمنية لدعم حركة “طالبان” في كابول والبلاد عامة، يفيد بأن مئات (ربما آلاف) من الكوادر والعناصر الطالبانية والتكفيرية وبشكل عام “الإسلاموية المقاتلة” قد نجحت في تنظيم خلايا سرية في العاصمة والمحافظات، لم يتم اكتشافها لسنوات، حتى جاء “يوم الانقلاب”، فانتشروا في أماكن مستهدَفة وسيطروا عليها وأسقطوا الدولة من الداخل. سيناريو انقلابي أمني كهذا يشكل نقلة نوعية استراتيجية لقدرة “الشبكات الإسلاموية” (المسماة جهادية في الغرب) في الاستيلاء على دولة بكاملها، بجيشها وأمنها واستخباراتها، وعلى الرغم من وجود القوات الأميركية والأطلسية على مدى عقود، مما يطرح أسئلة لا تنتهي حول الحملة الغربية برمتها في أفغانستان، وحول السيناريوهات الممكنة في دول أخرى في العالمين العربي والإسلامي، وحتى أسئلة مقلقة حول استراتيجيات الغرب نفسه ضد هذه القوى الراديكالية، سواء كان ذلك في ساحات بعيدة عن الدول الغربية أم في داخلها. ماذا حصل في أفغانستان؟ إلى ماذا أدى؟ ولماذا يُعتبر ذلك خطيراً؟
كما شهد الرأي العام مباشرة عبر الإعلام والسوشيال ميديا، خلال آخر أيام الانسحاب الأميركي، تقدمت قوات “طالبان” -تقريباً من دون معارك طاحنة- وغزت المدن والعاصمة والمحافظات، من دون مقاومة تذكر، واستولت على السلطة في أفغانستان. و”لعلعت” أوركسترا الإعلام الغربي لأيام “شارحةً” أن الجيش الأفغاني “انهار” خلال المواجهة، وأن معنويات الضباط والجنود كانت منكسرة، و”خلصوا” إلى أن الاحتلال كان خطأ، و”صنيعته” الدولة الأفغانية، “لم تكن مشروعة”، وبالتالي عللت هذه الأصوات أن الشعب “انتفض على النظام وأميركا” وأسقط المؤسسات بكاملها. وبالمفارقة هذا هو أيضاً خطاب “الإخوان” وإلى حد ما النظام الايراني حيال ما جرى على الأرض في أفغانستان.
ولكن ليس ذلك الذي جرى عملياً. فكما شرحت “وول ستريت جورنال”، فإن “هذه الشبكات الاستخباراتية كانت انتشرت ضمن المؤسسات الحكومية، والأمنية، والإدارية، والعسكرية، والمالية في كابول والمدن الأخرى منذ سنوات، وحُددت لها أهدافها، وطريقة الانقضاض، والسرعة في التنفيذ، والتواصل فيما بينها، وجمع المعلومات، والتمويه”. وحسب الصحيفة الأميركية فأعضاء الشبكات كانوا موَّهوا أنفسهم بشكل دقيق جداً، فأوجدوا لأنفسهم غطاءً فردياً مميزاً داخل المجتمع، بين العائلات، والمؤسسات الخاصة، و”البيزنس”، على مدى عقدين. وذهبت “وول ستريت جورنال” إلى تفصيل منهجية “تقية” اجتماعية إلى حد وصف هؤلاء “المتشددين” بأنهم ارتدوا الجينز، والبزات، والقبعات، ووضعوا نظارات الشمس “راي بان” (Ray Ban)، وحلقوا ذقونهم وقصوا شعورهم، وباتوا وكأنهم من أجيال الألفية الثانية (Millennials) التحديثيين الذين يعيشون ما بين نيويورك ودبي وطوكيو. وبمعلومات من مصادر أفغانية أن بعض هؤلاء “المتموهين” عمل مع الأميركيين والأوروبيين كمتعاقدين (contractors). بالخلاصة، كان جيشاً سرياً اتبع قمة التمويه والخدعة، وانتشر في مفاصل البلاد منتظراً الساعة صفر. وهذه الأخيرة كانت إشارة بالانقضاض كانقلاب محنك، لا كمعركة مواجهة عسكرية. وهنا تبدأ الأسئلة الكبرى.
إن مجرد عرض التركيبة الأمنية “للجيش السري” ليس فقط حسب التقرير المدوي الذي نشرته الصحيفة الأميركية، بل أيضاً المعلومات التي تأتي من الداخل الأفغاني بخاصة بعد خروج “المقاتلين المموهين” إلى العلن، يقود إلى استنتاج واحد. ألا وهو أن هذه الشبكة معقدة ومهنية بشكل، لا بد أنها كانت ممولة ومدعومة وموجهة. فعدد “المجموعات” واحتياجاتها اللوجستية، وترابطها، وأهم نقطة، تحركها كآلة وحدة، كل ذلك يدل على وجود جهة، أو قوة، أو طرف ذي قدرات يقف وراء التنظيم والمتابعة. طبعاً أكثرية أعضاء هذه الخلايا النائمة هم من الأفراد الطالبانيين. وبعضهم ربما من “القاعدة”، ومجموعة حقاني، وحتى “دواعش”. ولكن الإطار التنظيمي يبدو وكأنه متخصص في الاختراق، والتجنيد، والتنظيم، والتمويل، بخاصة “الانقلابات”. والشبكة الاستخباراتية الخارقة المدن والمواقع والقواعد لا بد أنها منظمة على أسس علمية وانضباطية كما عند الحكومات والجماعات العاملة مع دول. فالميليشيات الطالبانية التي قاتلها الجيش الأفغاني وقوات “الناتو” على مر العقود شيء، والجيش السري الذي نفذ الانقلاب شيء آخر. وإن دل هذا الواقع على شيء، فعلى واقعَين مقلقَين.
سؤال كبير يطرحه الواقع المذهل لانقلاب كهذا من تحت أنف أكبر وأقوى حلف في التاريخ. فكيف يمكن أن يتم تنظيم شبكة بهذا الحجم، وهذه القدرات، والدقة، والسرعة في التحرك، والسهولة في الانقضاض، من دون علم الاستخبارات الأميركية والأطلسية لسنوات وسنوات؟ بالطبع تساؤل كهذا سيُطرح في جلسات استماع أمام الكونغرس عند مراجعة الملف الأفغاني، في هذا الكونغرس، والآتي بعد الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وسيُطرح الملف أيضاً خلال النقاشات التي ستسبق الانتخابات الرئاسية في عام 2024. إلا أن المراجعة الأهم لا بد أن تكون داخلية ضمن أجهزة الدفاع والاستخبارات الأميركية والبريطانية والفرنسية والأطلسية. فهي الأقدر على أن تراجع ملفاتها، وتقاريرها، ومخبريها، ومحلليها. فهي القادرة على فهم ما جرى، لأن ثغرة كهذه تشكل نكسة لا مثيل لها، فهي تشير إلى فشل الأجهزة الجبارة في كشف وتفكيك شبكة من المتشددين “سرقت” أفغانستان بليلتين من دون أن يراها أحد أو يتصدى لها.
والسؤال سيتشعب مع المراجعات التشريعية والداخلية. هل فعلاً لم تكن الأجهزة على علم بالشبكة؟ لماذا؟ هل لأن جهات عمدت إلى تغطية المعلومات، عدم شرحها، شرحها خطأً، عدم رفعها للمستويات الأعلى؟ هل كان ذلك نتيجة أخطاء أم تمويه، أم اختراق للأجهزة. أسئلة آتية حتماً، لما في ذلك من خطورة بالنسبة إلى عمل الأجهزة في دول وأماكن أخرى من العالم. فماذا لو أن أجهزة دول أو شبكات أثرت في الأجهزة الأميركية والأطلسية وسبَّبت أخطاء فادحة في التقييم؟ المستقبل قد يكون حافلاً بالمفاجآت.
سقوط أفغانستان بيد شبكة إرهابية، متطورة، معقدة، عميقة، ممولة، قادرة يثير مخاوف حول احتمال تكرار سيناريو كهذا، أو سيناريو شبيه في دول الإقليم أو دول عربية وإسلامية أخرى. فبعد سيطرة “طالبان” على أفغانستان، ستتحول “الشبكة” إلى جهاز سيطور شبكات للترابط مع نظيراتها في دول أخرى. وأول دولة سيُطرح السؤال حول قدرتها على مواجهة شبكة كهذه هي باكستان، التي على الرغم من قوة استخباراتها ونفوذها لدى “طالبان”، فإن الوضع الجديد في أفغانستان قد يخرج عن السيطرة ويختلط الحابل بالنابل، وقد تستفيد عناصر متطرفة من الوضع وتسعى إلى اختراق الأجهزة الباكستانية، والأخطر أن تقترب من السلاح النووي. طبعاً القيادة الباكستانية واعية لهذا الخطر، ولكن أحداث أفغانستان تفتح الأعين على واقع جديد، حيث ما كان مستحيلًا سابقاً قد يصبح ممكناً.
وصعود الشبكة في أفغانستان سيكون له تأثير في إعادة فتح ملفات التكفيريين والإسلامويين في العالم العربي. إذ إن ما جرى في أفغانستان، جرت محاولات كثيرة شبيهة له في أكثر من دولة عربية، ولو بأحجام أصغر وأشكال مختلفة. فمحاولات الخلايا السرية الإرهابية لإطلاق فوضى وانقلابات قد استهدفت مصر، والأردن، وليبيا، وتونس، واليمن، والسودان، وجندت عناصر ضد الإمارات، والمغرب. وجرت محاولات في الساحل من مالي، إلى النيجر، فبوركينا فاسو، ونيجيريا، وغيرها. إن كل هذه الدول ستتأثر تدريجاً “بالتسونامي الأفغاني” وفشل “الناتو” في كشف الشبكة الانقلابية في أفغانستان وتفكيكها. إذ إن ما نفذته الخلايا في ظل وجود القوات الأفغانية والأطلسية ستحاول خلايا مشابهة أن تنفذه في دول عربية وإسلامية عبر اختراقات مماثلة، والاستفادة من الدروس الميدانية.
إنما الإنذار الأكبر فهو للغرب، لا سيما الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وأستراليا وكندا. فهذه الدول كانت في طليعة المنتشرين في أفغانستان لعشرين عاماً، وخسرت عديداً ولوجستياً للحفاظ على الأمن في ذلك البلد، واستثمرت المليارات لتمويل المهمة. إلا أنه وفي أسبوع واحد تطايرت المنظومة الأمنية التي أقامتها ودربتها لسنين طويلة، ولم تكن هذه الجيوش والأجهزة الغربية قادرة على منع المتشددين من إقامة شبكة أمنية استطاعت أن تسقط حكومة. والسؤال المطروح الآن، والذي سيُطرح في المساءلات التشريعية، هو التالي: “إذا لم تتمكن القوى الأطلسية والغربية وأجهزتها من كشف شبكات إرهابية واسعة في بلد كانت تسيطر عليه مباشرةً، فهل ستتمكن هذه الشبكات نفسها، أو أخرى مرتبطة بها أو شبيهة لها، أن تخترق الدول الغربية، وأن تنشر الخلايا، وتجهزها، وتأمرها بالتحرك عندما تدق الساعة؟”. البعض قد يرى ذلك كرواية جيمس بوند أو “مهمة مستحيلة” Mission Impossible ولكن التاريخ الحديث يشير إلى غير ذلك من نيويورك إلى فلوريدا، إلى لندن وباريس، وتورونتو وغيرها، فـ”القاعدة” و”داعش” ومتشددون آخرون، بالإضافة إلى أفراد مغشوشين وراديكاليين حركتهم شبكات، فضربوا واغتالوا، وقتلوا، فنجحوا وأحياناً فشلوا، على مدى سنوات.
ونجحت الأجهزة في كشف كثيرين منهم، وتم توقيفهم، ومحاكمتهم، وسجنهم. ولكن تلك الدول لم تستطع وقف انتشار عقيدتهم، أو أن تفكك آلتهم للبروباغندا والتجنيد. وكان الرد في جلسات الكونغرس أن “الانتصار على شبكاتهم في الخارج ينهي سبب وجودهم في الداخل”. إلا أن فشل الانتصار عليهم في أفغانستان، أو ساحاتهم الأخرى، قد يعيد المواجهة إلى عمق الغرب كما حصل بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ولكن بقدرات أكبر، وخبرة أطول، ودعم لوجستي أوسع، وسيولة مالية هادرة. والخوف الأعمق هو أن تتمكن القوى التي انتصرت في أفغانستان أن تشكّل جيشاً سرياً آخر ينتظر الساعة صفر ليس في كابول أو قندهار، لكن في واشنطن وباريس. ليس لاحتلالهما، بل لشلهما، لتتمكن “طالبان” الشرق الأوسط من اجتياح دول أخرى عندما يحين الوقت.
فهل يصحح الغرب مساره قبل تطور التحدي الجديد؟