رحلة ماكرون اللبنانيّة الى السعوديّة: القصّة
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

قد يعارض كثيرون الخطوات التي يقدم عليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقد يؤيّده آخرون، ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر أنّه رجل لا يذعن إلى اليأس.

هذه حاله في نظرته إلى بلاده، وهذه حاله أيضاً في نظرته الى لبنان.

هو يخطئ ويصيب، ولكنّه لا يتوقف عن المحاولات.

غالبية اللبنانيين، إلى أيّ فئة انتمت، لها مآخذ على مبادرات ماكرون تجاه لبنان. القوى التي ترفض تكريس الهيمنة الإيرانية على لبنان، تراه يعقد صفقات مع طهران على حساب المبادئ الوطنية، أمّا “القوى الممانعة” فتجده خبيثاً، بحيث يعطيها القليل ليأخذ منها الكثير.

من الواضح أنّ الرئيس الفرنسي لا يكترث لمآخذ هاتين القوتين، بل يواصل مساعيه تحقيقاً لهدفه الذي أعلنه من بيروت في احتفالية المئوية الأولى لإعلان فرنسا دولة لبنان الكبير.

جرى إفشال مبادرته اللبنانية. حسبه كثيرون قد يئس، لكنّه سرعان ما أدخل تعديلات على خططه، وأكمل المشوار.

جرى إفشال المبادرة المعدّلة، فظنّ كثيرون أنّها الضربة القاضية، لكنّه حاول، مرة جديدة.

عندما تشكلت الحكومة، وفق معادلة “الممكن”، سرعان ما اكتشف الإحباط الكبير، فقوى الممانعة التي “يسايرها” عطّلت المسار، فأرادت استخدام الحكومة لتعطيل “المساءلة الحقيقية” في ملف انفجار مرفأ بيروت، ومن ثم لجأت الى الشارع، لتحقق غاياتها بإعادة شبح الحرب الأهلية، قبل أن تلتف حول وزير الإعلام جورج قرداحي لتجعله بوقاً تواجه به المملكة العربية السعودية.

كاد كل ما فعله ماكرون، بسيئاته وايجابيّاته، يعود الى نقطة الصفر، ولكنّه بدل أن ينفض يده من الموضوع اللبناني، وقف الى جانب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حتى يشجّعه على عدم الاستقالة. وعده، في لقائهما المعلن في غلاسكو الاسكتلندية، بأنّه سوف يساعده لدى صندوق النقد الدولي ولدى المملكة العربية السعودية، ومن ثم بعد قطع الرياض علاقاتها الدبلوماسية مع لبنان، جزم له، في لقاء غير معلن جرى بينهما في روما، بأنّه سوف يبذل جهده لإقناع القيادة السعودية بتعديل مواقفها تجاه لبنان، طالباً منه، كتمهيد لتحقيق ذلك، تنفيذ خطوتين سوف يدعمه في تنفيذهما: مثابرة وزارة الخارجية اللبنانية على التنديد بعدوان حوثيّي اليمن على المنشآت المدنية السعودية، ودفع قرداحي نحو تقديم استقالته.

ولم يتردّد الرئيس الفرنسي في الاستفادة من الضربة الأميركية التي تلقاها منها في أستراليا، فهو، في المساعي التي بذلتها إدارة الرئيس جو بايدن، لاحتواء الغضب الفرنسي من نسف “اتفاق الغواصات” بين باريس وكانبيرا، أدرج الملف اللبناني، وأخد تعهّداً أميركياً بأنّ مواقف واشنطن من الموضوع اللبناني ستكون متطابقة مع مواقف باريس، ما دام هناك تلاق في الرؤى الاستراتيجية لدى الدولتين.

وقد ساعدت واشنطن باريس في إعطاء ميقاتي دفعة معنوية للاستمرار في منصبه، ومحاولة توفير الشرطين اللذين طلبهما ماكرون لتزويده بأوراق “إقناع” في محادثاته السعودية.

قبل أن يبدأ ماكرون جولته الخليجية، كان كثيرون يتوقعون له الفشل الذريع، في الموضوع اللبناني، عندما يثيره مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لأن “رجل السعودية القوي” سبق أن رفض، مراراً وتكراراً، أن يبحث مع ماكرون وغيره في الموضوع اللبناني، على قاعدة: “طفح الكيل من لبنان”.

ولكن التوقعات السلبية خابت، فماكرون كان قد هيّأ الأرضيتين اللبنانية والسعودية، مستعيناً بأصدقائه، ولا سيّما في كل من دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر.

إلّا أنّ الإيجابيات التي حققها ماكرون لم تكن ممكنة، لو لم يدخل، هذه المرة أيضاً، تعديلات على نهجه اللبناني، فهو لم يطلب من الأمير محمد بن سلمان الانخراط في الملف اللبناني، وفق المعادلات اللبنانية الراهنة، بل بموجب رؤية مشتركة تراعي مصلحة الشعب اللبناني المنكوب، بمساعدات منسّقة خارج إطار مؤسسات الدولة، من جهة أولى، وتراعي الطموح باستعادة لبنان روحه، من خلال العودة الى الالتزام بتعهداته، منذ “إعلان بعبدا” بالنأي بالنفس عن حروب المنطقة وصراعات محاورها، وتذكيره بوجوب الاهتمام بنصين أساسيين، أولهما “اتفاق الطائف” وثانيهما القرارات الدولية، ولا سيما منها القرار 1559 الذي لا يطيق “حزب الله” السماع به، من جهة ثانية.

القوى اللبنانية على اختلافها، تشك في أن يصل الاتفاق الفرنسي – السعودي الى خواتيمه السعيدة، لجهة إحياء علاقات حميمة مع الرياض، تتخطى العلاقات الدبلوماسية التي كانت عليه قبل انفجار “صاعق قرداحي”، فالتجربة دلّت على أنّ “حزب الله” يترك العاصفة تمر، ليبدأ بنصب كمائنه، خصوصاً أن كثيراً من اللاعبين، سواء في لبنان أو في الخارج، يدركون أنّ هذا الحزب يعمل، بلا هوادة، لإخراج لبنان من عروبته من أجل تسهيل “تعجيمه”.

ولا يزال “حزب الله” يملك ورقتين داهمتين تساعدانه على قلب الأمور رأساً على عقب: أولاهما ملف انفجار مرفأ بيروت، كوسيلة لمواصلة “شلّ” مجلس الوزراء، وثانيتهما، ملف حوادث الطيونة كوسيلة لإحياء التوتّر الخطر في الشارع “المتأهّب”.

ويملك الحزب ورقتين مرجأتين لتحقيق ذلك: الاستعانة برئيس الجمهورية ميشال عون وتياره لنسف الانتخابات النيابية وإشعال الشارع، بفئاته الشعبية والسياسية، بإثارة ملف التمديد، وإلّا بمحاولة “ترئيس” النائب جبران باسيل.

ولكن، مهما كانت الكمائن كثيرة، فمن الواضح أنّ ماكرون الذي أخذ الملف اللبناني على عاتقه، لا يذعن الى اليأس، وسوف يواصل مساعيه، وقد زاده الدخول السعودي بعد الأميركي على الخط، قوة وتصميماً.

وتكمن مشكلة “كارهي” ماكرون في أنّ خروجه من قصر الأليزيه، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تبدأ دورتها الأولى في نيسان (أبريل) المقبل، ليس على جدول أعمال الفرنسيين، إذ إنّ هذه الانتخابات، لو حصلت اليوم، لحظي ماكرون بولاية ثانية.

زر الذهاب إلى الأعلى