ألعاب سياسية يُراد لها أن لا تنتهي
بقلم: مصطفى أبو لبدة

النشرة الدولية –

لِمنْ يبحث عن نموذج حيّ في حِرْفة إدارة لعبة سياسية لا تنتهي، فلن يجد أفضل مما يجري  الان  في  مفاوضات “ النووي الايراني “ التي تستهدف التوصل إلى تفاهم يعيد العمل بالاتفاق المبرم عام 2015 ،والذي  كانت قد انسحبت منه الولايات المتحدة الأمريكية  عام 2018  بعهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

الطريقة التي أنهت بها ايران جولة المفاوضات السابعة في فيينا ،يوم الجمعة الماضية، كانت شديدة الاحتراف في إحداث الصدمة لدى  مجموعة الدول 4+1التي تتولى الوساطة بين طهران وواشنطن

قدّم الوفد الايراني ورقتين رئيسيتين ألغتا جميع التسويات التي كان قد جرى التوصل إليها خلال شهور من المفاوضات. التحليل  الأوروبي للورقتين أظهر أن الخطوة الإيرانية صنعت ”فجوة يصعب التصوّر كيف سيكون ممكنا سدّها في إطار زمني واقعي“.

في طريق عودة الوفود الى بلدانها تبادلت، كالعادة، مهارات التلاوم والتهديد باللجوء الى الخيارات الأخرى.

ومن خارج أطراف التفاوض عرضت إسرائيل على الولايات المتحدة حلّين أحدهما عسكري والآخر استخباري، قالت إنهما سيحققان هدف منع ايران من امتلاك السلاح النووي، وكان مُلفتاً حزم الردّ الأمريكي برفض اللجوء للحل العسكري والتحذير منه بدعوى أنه سيُدخل الشرق الأوسط في حرب غير واردة في أولويات الإدارة الديمقراطية للبيت الأبيض.

أما الحل الاستخباري فهو قيد البحث، ربما  لتقييم درجة التزامه بقوانين إدارة اللعبة السياسية التي بات واضحا أن كليهما، أمريكا وإيران،  لا يريدان لها أن تنتهي، حتى وإن تبادلا الاتهامات بالمماطلة وعدم الجدية

هي اللعبة المشتركة بين واشنطن وطهران كما  تجددت فصولها على مدى السنوات ال 47 الماضية ، منذ أن أعلن شاه ايران  محمد رضا بهلوي ،عام 1974، مشروعه بامتلاك السلاح النووي

مشروع شاه إيران الذي كشفت الوثائق الأمريكية المُفرَجُ عنها أنه كان بنصيحة من لندن وواشنط، بقي حيّاً مع نظام الملالي الذي ورث الشاه، وجرت على مدار العقود الخمسة الماضية إدامة تجديده وتشغيله كأحد روافع العلاقة  بين واشنطن وطهران، في نطاق ما شهدته السياسة الامريكية  في الشرق الأوسط من تقلبات وما كبدته للمنطقة من تكاليف..

انتقل مشروع  ”النووي الايراني“ من الشاه الى عُهدة نظام الملالي، وأصبح رديفاً لمشروع الإسلام السياسي بشقه الخاص بالمذهب الشيعي، وما اتصل بذلك من شعارات تصدير الثورة.

في نهايات حرب 1980 – 88 بين العراق وإيران، جرى إقناع الخميني بتحريك برنامج الشاه  الخاص بالنووي، وظل  من يومها  يتدحرج ويتجدد على خط طهران – واشنطن.

لكن أكثر فصول هذا الملف غموضاً وجدلاً، كانت القصة المعروفة بإسم ”الصفقة الكبرى“، التي قيل إن طهران أوصلت فيها لواشنطن، عام 2003، رسالة تعرض شراكة إستراتيجية مُقننة  غير معلنة، فقد أعقبتها  مشاركة نوعية من  إيران في الحربين الأمريكيتين في العراق وأفغانستان، وجوائز  ترضية  معروفة ،حصلت عليها طهران في القبول الأمريكي بأن يكون لإيران حضور نافذ في العراق، وسكوت أمريكي عن شبكات المليشيات والوكلاء الذين نشرهم الحرس الثوري وفيلق القدس في لبنان ثم سوريا واليمن.

الرئيس الأمريكي باراك أوباما أحدث جديداً في علاقة واشنطن التاريخية  بالشرق الأوسط، بأن أدرج في إستراتيجيته للأمن القومي عام 2010، فكرة تقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة  بدعوى أن أولويات واشنطن تغيّرت وأصبحت صدارتها للمنافسة مع روسيا والصين.

ولضمان أن يبقى الشرق الأوسط رهينة الاستنزاف الداخلي والحاجة الموصولة للسلاح الأمريكي فقد جرى إطلاق عدة محركات،  بينها شرارة ”الربيع العربي“ ، وتقنين النووي الإيراني باتفاقية 2015,

الجديد النوعي في جاروشة ”النووي الإيراني“، وقد أصبح عنوانها ”لنجعل الشرق الأوسط يتعايش مع الغموض“، هو أن إيران فخّخت  الجولة السابعة من مفاوضات فيينا، وغادرتها يوم الجمعة الماضية، بما ترك انطباعا أنها حققت هدفها الحقيقي: ليس حيازة القنبلة النووية وإنما امتلاك القدرة على تصنيعها“.

وساعدتها على ذلك ليونة غير مفهومة في موقف إدارة بايدن التي ورثت من طواقم إدارة اوباما  أكثرهم تأييدا وتساهلا مع المطالب الإيرانية.

كسبت إيران من الوقت ما يمكنها من استكمال تخصيب اليورانيوم، دون الحاجة  إلى إنتاج القنبلة، وفي ذلك تصبح دولة نووية بالملاءة: لا تحوز القنبلة  الذرية التي  أفتى الإمام الخميني بتحريمها، لكنها تستطيع صنعها  عند الضرورات التي تبيح المحظورات.

هذا النوع من الدول النووية التي تريد إيران إحراز عضوية ناديها، معروفٌ وتندرج فيه اليابان، وقد سبق أن كشف عنه كخيار سري  معتمد لدى طهران، الرئيس الأسبق أحمدي نجاد عام 2006.

عندما عقد الرئيس الأمريكي أوباما اتفاق النووي الإيراني عام 2015، سمع وجهة النظر العربية الرافضة للاتفاق وتصفه بأنه خذلان أمريكي للشرق الأوسط. وهي نفس القناعة العربية تجاه مفاوضات فيينا، كما سمعتها القيادات العسكرية الأمريكية التي شاركت في حوار المنامة أو مؤتمر الأمن الإقليمي بدورته الأخيرة في تشرين الثاني الماضي.

في المناسبتين، كان الجواب الأمريكي للعرب هو أن الحل بأن تتعايش دول الشرق الأوسط مع هذا الملف المفتوح منذ خمسة عقود، أو مع حالة الغموض المستدام.

التعايش يعني ببساطة قبولك أمرا واقعا  تستنكره، بعد تعزيز وإعادة هيكلة أوراق قوتك الذاتية، وهي قناعاتٌ براغماتية، واضحٌ الآن أن بعض العواصم العربية وصلت إليها منذ  العام الماضي.

“إرم نيوز”

زر الذهاب إلى الأعلى