الاحتواء الأميركي للصين … هل لايزال ممكناً
بقلم: د. سنية الحسيني

 

النشرة الدولية –

منذ عهد باراك أوباما، قررت الولايات المتحدة، الاستدارة نحو أسيا لمواجهة التمدد والصعود الصيني، ومنذ ذلك الوقت باتت الاستراتيجية الخارجية الأميركية تركز على احتواء الصين، وأضحت سياستها الخارجية موجهة بجلاء لتحقيق تلك الاستراتيجية، خلال عهدي الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن. وأصبح العديد من السياسات الخارجية الأميركية اليوم تفهم في إطار سياسة الاحتواء التي تتبناها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون لمواجهة الصين وتقويض مكانتها، وهي ذات السياسة التي تبنتها أميركا وحلفاؤها في الماضي، تجاه الاتحاد السوفيتي للحد من نفوذه، خلال الحرب الباردة. تتشابه المعطيات بين اليوم والأمس، فلم يعد هناك شك في أن الولايات المتحدة لم تعد الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وأن الصين باتت المهدد الأول لمركزها القطبي المتفرد، فعالم اليوم بات أقرب إلى عالم متعدد الأقطاب، تتتفوق فيه الولايات المتحدة والصين، بشكل رئيس، تماماً كما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تقود عالماً ثنائي القطبية، خلال الحرب الباردة.

 

كما أن الصين هي أحد أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمين، والمتحكمين في قرارته، تماماً كما كان الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة،  والذي شكل ذلك في حينه قوة معطلة لعمل وقرارات المجلس، الا أن الصين تعمل اليوم في مجلس الأمن، بتناغم وتفاهم مع روسيا، وليس كما كان الاتحاد السوفيتي يعمل وحده في الماضي.  أضف إلى ذلك أن الصين اليوم قوة نووية وعسكرية ذات وزن ثقيل، لا يمكن اغفالها، تماماً كما كان الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، حين حُكم صراع البلدين بتفاهمات ضمنية ضبطت حدود وإطار المواجهة بينهما، والتي اعتمدت على مفهوم “الردع النووي”، ومن الصعب أن تخرج حدود المواجهة بين الولايات المتحدة والصين اليوم عن نوع من التفاهمات الضمنية الشبيهة أيضاً، والتي تحكم صراع الطرفين اليوم. لكن هناك معطيات جديدة لا يمكن اغفالها، في هذا الصراع المفتوح بين الولايات المتحدة والصين اليوم، تختلف عن تلك التي حكمت تطورات الحرب الباردة وحددت نتائجها، وقد يكون على رأسها تفوق الصين الاقتصادي، ذلك التفوق الذي يقلب معادلة الصراع الماضية ونتائجها، حيث كان الضعف الاقتصادي للاتحاد السوفيتي، السبب الرئيس في هزيمته في الحرب الباردة. لم تنجح الصين فقط، وخلال العقدين الماضيين، وبنهج تراكمي، في بناء قوة إقتصادية وعسكرية يحسب حسابها، بل تفوقت في مجالات التكنولوجيا المختلفة  التي تحكم لغة هذا العصر، فما هي فرص الولايات المتحدة لقلب جميع معطيات التفوق الصيني التراكمية لصالحها اليوم؟

 

ومن السهل فهم حدود وأهداف المواقف والسياسيات الأميركية الحالية، والتي تتمحور جميعها لمواجهة الصين، إذ أقدمت إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن على تدشين وحدة جديدة تابعة لوكالة المخابرات الأميريكية في شهر أكتوبر الماضي، مكلفة بمتابعة قضايا الصين، بقيادة وليام بيرنز، بعد أن اعتبرت الإدارة أن الصين تشكل أهم تهديد جيوسياسي للولايات المتحدة في القرن ال ٢١. كما بدأ الكونجرس بالعمل على تشريع قانون الابتكار والمنافسة الأميركية لعام ٢٠٢١ ((USICA، على أن يتم دمجه مع مجموعة أخرى من التشريعات الموجهة ضد الصين، مثل قانون المنافسة الاستراتيجية وقانون مواجهة التحدي الصيني وغيرها، بهدف الحفاظ على التفوق التكنولوجي، بميزانية قدرت ب ٢٥٠ مليار دولار. وكانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قد انتهجت سياسة عدائية تجاه الصين، فشنت حرب تجارية ضدها، وحظرت وحاربت شركاتها التكنولوجية، وسمحت بوجود تبادل دبلوماسي رفيع المستوى مع تايوان، وصعدت هجومها في إطار ملف حقوق الانسان في الصين، وفرضت بسببه عقوبات على مسؤولين وشركات صينية، كما حملت الصين مسؤولية انتشار فايروس كورونا.

 

وتأتي القمة من أجل الديمقراطية التي تعقدها الولايات المتحدة وحلفاؤها اليوم وغداً في واشنطن، بمشاركة أكثر من مائة دولة، منها حوالي ٣٠ دولة صغيرة في عدد سكانها، للالتفاف على الاختراق الذي نجحت الصين في تحقيقه خلال السنوات الماضية، في كسب الكثير من دول العالم الصغيرة والفقيرة لجانبها، خصوصاً في أفريقيا، ومناطق أخرى أيضاً من أنحاء العالم المختلفة، عبر المدخل الاقتصادي. وأدركت الولايات المتحدة متأخرة أهمية مثل هذه الدول، والتي استطاعت الصين استثمار علاقتها معها على سبيل المثال سياسياً في أروقة الأمم المتحدة، ممثلة بأجهزتها كالجمعية العامة واليونسكو ومنظمة الصحة العالمية ، لتعزيز المصالح الوطنية الصينية في المؤسسة الدولية. ومؤخراً، جاء إعلان الولايات المتحدة عن مقاطعتها الدبلوماسية لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بيكين لعام ٢٠٢١ – ٢٠٢٢، محتجة على ما تعتبره “وجود انتهاكات حقوق إنسان في الصين”، وهي ذات الحجة التي استخدمتها خلال المواجهة التي شهدتها القمة الافتراضية بين رئيسي البلدين بايدن وشي جين بينغ، الشهر الماضي، والتي لم تنجح في الخروج بأي نتائج إيجابية.

 

وتستخدم الولايات المتحدة قضية انتهاكات حقوق الانسان في مواجهة الدول التي تعارضها، على أساس أنها أحد المبادئ الليبرالية التي تدافع عنها وتحميها، وفي نفس الوقت تتغاضي عن أي انتهاكات من نفس النوع تحدث في الدول الحليفة لها، وعلى رأسها إسرائيل، في سياسة الكيل بمكيالين، والتي أفقدتها الكثير من مصداقيتها. كما صعدت الولايات المتحدة من تحركاتها ونشاطها العسكري في عقر دار الصين بالتواجد في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي ومضيق تايوان، ومن خلال بناء تحالفات عسكرية مناهضة لها، لتضيق الخناق على الصين في ممراتها المائية، فأعلنت الولايات المتحدة في شهر أيلول الماضي عن إقامة تحالف عسكري مع إستراليا والمملكة المتحدة باسم تحالف “أوكوس” AUKUS))، لتشكل تحالفاً مضاداً للتحالف الصيني الروسي في المنطقة. ومن المقرر أن يتم تسليم أستراليا للغواصات وغيرها من التقنيات الالكترونية الحساسة عام ٢٠٤٠.

 

وتتصدى إدارة بايدن لقضية تايوان، التي تعتبرها الصين قضية جيوستراتيجية بالغة الأهمية، على أساس أنها جزء لا يتجزأ من الوطن الصيني، في موقف يعتبره الخبراء تراجعاً عن سياسة الغموض الاستراتيجي التي انتهجتها واشنطن في السنوات التي سبقت عهد ترامب. وعلى الرغم من تأكيد بايدن في شهر تشرين الماضي على أن بلاده ستحمي تايوان من أي اعتداء صيني، الا أنه أكد أيضاً أن سياسة بلاده لن تشهد أي تغيير عن الماضي، في محاولة لحفظ خط الرجعة. وتتمتع جزيرة تايوان بحكم ذاتي، ولا تعترف واشنطن بها رسمياً كدولة، كما لا تربطها معها إتفاقية دفاع مشتركة، وطالما تجنبت الإدارات الأميركية السابقة، باستثناء إدارة ترامب، استفزاز الصين لاجلها. ومن المستبعد أن تنجح إدارة بايدن في إقناع الناخب الأميركي بخوض حرب لصالح تايوان في مواجهة الصين، في ظل تصريحات بايدن بعد الانسحاب من أفغانستان التي قال فيها: “إن الحفاظ على الديمقراطية الأفغانية لا يستحق أرواح الأميركيين”.

 

كما تسعى الولايات المتحدة للوقوف حجر عثرة أمام مشروع الصين الاقتصادي العابر للحدود “الحزام وطريق الحرير” الذي أطلقته الصين عام ٢٠١٣، وذلك من خلال مشروعها الذي يعرف ببرنامج “إعادة بناء عالم أفضل” الذي أعلن عن إطلاقه في شهر يونيو الماضي، ويفترض إنجازه بحلول عام ٢٠٣٥. ويستهدف البرنامج التصدي لمبادرة “الحزام والطريق الصينية” من خلال تبني مجموعة الدول الصناعية السبعة الكبرى (G7) تمويل مشاريع بنية تحتية لدول من العالم النامي، وتعتبر طرفاً في المبادرة الصينية. وفي حين تتبنى الصين تمويل مشروعها الاقتصادي وحدها، تتقاسم تمويل المشروع الغربي واشنطن ودول (G7) عبر بنوك التنمية الدولية والمؤسسات الدولية. وفي حين تؤكد الولايات المتحدة أن مشروعها يأتي لنفي المشروع الصيني، تؤكد الصين أن المشروع الغربي لا ينفي مشروعها، لأن العالم يحتاج لمثل هذه الجهود مجتمعه.

 

إن مشاريع الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية في مواجهة الصين تحتاج لسنوات كي يتم انجازها، كما أن مكانة جو بايدن السياسية في تراجع ملحوظ. وتتصاعد مخاوف الديمقراطيين من خسارة الأغلبية في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل في الكونجرس، خصوصاً بعد خسارتهم في الانتخابات الأخيرة لحاكم ولاية فرجينا مطلع الشهر الماضي، ونتائج استطلاعات الرأي الأخيرة التي جاءت في غير صالحهم. في المقابل يحافظ بينغ الرئيس الصيني على استقرار سياسي داخلي، محمي بنظام الحكم في بلاده. كما أن الصين تحافظ على علاقات إقتصادية عميقة مع مختلف دول العالم، بنتها على مدار سنوات طويلة. وقد يكون من أهم هذه العلاقات، علاقتها مع الولايات المتحدة، والتي بدأت بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام ٢٠٠١، وانخراطها منذ ذلك الوقت ضمن منظومة الاقتصاد الليبرالي، أو النظام الرأسمالي، مع احتفاظها بنظامها الداخلي، المحكوم بالطلب والابتكار المحلي، والذي تعمل الشركات الأجنبية داخل الصين وفق معطياته. وتعتبر الصين أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، حيث بلغ حجم السلع والخدمات المتداولة الثنائية بين البلدين خلال العام ٢٠٢٠ حوالي ٦١٥ مليار دولار، وارتفعت الاستثمارات الأميركية في الصين لتصل إلى ١٢٤,٥ مليار دولار في ذات العام. وكانت الصين قد فتحت أسواقها المالية للشركات الأجنبية عام ٢٠٢٠، فضخت شركات “وول ستريت” وحدها في أسواق السندات الصينية ٢١٢ مليار دولار.

 

تمتلك الصين علاقات قوية سياسية ودبلوماسية وإقتصادية مع معظم دول العالم، بما فيها الدول الغربية، فهي شريك إقتصادي قوي لإسرائيل وفي ذات الوقت شريكة لإيران وكذلك لدول الخليج، فالصين تتحدث مع الجميع بلغة الاقتصاد التي تجيدها كل دول العالم. كما أن الاقتصاد الصيني هو الأقوى عالمياً على الاطلاق، في ظل دعم المنتج المحلي عموماً. فخلال عام ٢٠٢٠ سجلت الصين ٨٠٠٠ شركة جديدة، وتستضيف مصانع عالمية، مثل شركة آبل وبوينغ، حيث يعمل في مصنع آبل وحدة اكثر من ربع مليون عامل. وتسجل الصين وحدها سنوياً أكثر من نصف مليون براءة إختراع، في مجالات عسكرية وتكنولوجية وغيرها. وتستثمر الصين بكثافة في بناء شبكات الجيل الخامس. ووقعت الصين ١٠٧ اتفاقية استثمار ثنائية، وتفاوضت حول ٢٤ اتفاقية تجارة حرة، منها ١٦ اتفاقية تم توقيعها والعمل بها، في المقابل تفاوضت الولايات المتحدة على ٢٠ اتفاقية تجارة حرة، تم العمل ب ١٤ اتفاقية منها فقط. وخلال العام الحالي، وصل دين الولايات المتحدة للصين ١,١ ترليون دولار، حيث تدفع واشنطن للصين فائدة يومية تقدر ب ٧٤ مليون دولار. وحسب استطلاع للرأي أجرته غرفة التجارة الأميركية حول إمكانية تقليص الشركات الأميركية لتواجدها في الصين، أكدت ٧١ في المائة من هذه الشركات، عدم نيتها سحب شراكتها مع الصين.

 

تعلم الصين أن التفوق التقني والاقتصادي هو رافعتها نحو القطبية، وأن الابتكار التكنولوجي هو ساحة المعركة الرئيسة ومفتاح اللعبة الاسترتيجية العالمية، بالتوافق مع تبنيها لقاعدة الاعتماد على الذات، الأمر الذي يفسر سياساتها القائمة. كما أن الصين تعتمد منهجاً سياسياً براغماتياً، وتتبنى سياسة المواجهة الهادئة، في ظل عقيدة عسكرية استراتيجية دفاعية، لا تميل بطبيعتها للتوسع، وهو ما ينسجم بشكل كبير مع أهدافها السياسية والاقتصادية، التي تحتاج لسيادة حالة من السلام والتفاهم مع الشركاء في الإقليم ومع العالم. كما أن الصين تعمل من خلال المؤسسات الدولية والنظام التعددي التعاوني المشترك، الذي بات طريقاً للتعامل وحل كثير من القضايا الدولية، فهل يمكن أن تنجح الولايات المتحدة بعد كل هذا في تفكيك هذا الصرح العملاق، في ظل معطيات الواقع القائم؟

زر الذهاب إلى الأعلى