الجيش الروسي في لبنان

النشرة الدولية –

الثائر نيوز –

الساعة الواحدة بعد منتصف ليل ٢٠٠٦/١٠/٢٦ ، رن جرس الهاتف دقات سريعة، فعرفت أن الأمر طارئ. نهضت من سريري، رفعت السماعة، فجاء صوت ضابط غرفة العمليات يقول: سيدي! الساعة الرابعة سيصل زائر روسي رفيع إلى مطار بيروت، لقد تم تعيينكم لمرافقة الوفد، ستجد برقية بكافة التفاصيل على مكتبك.  أجبت: حسناً، ولم أسأل أي سؤال، فأنا أعرف جيداً دقة وسرّية التدابير في مثل هذه المهمات.

ارتديت ثيابي على عجل، فهناك الكثير من العمل يجب إنجازه بسرعة. ركبت سيارتي وتوجهت إلى مركز عملي، هناك وجدت سرية الحراسة جاهزة، كان الجنود يقِظين، وكعادتهم لا تبدو على وجوههم أي علامات للتعب أو النعاس فهم متخصصون للقيام بمثل هذه المهمات. تقدّم مني آمر السرية، حيّاني وأبلغني أنهم جاهزون لتنفيذ الأوامر، ثم ترجّل عدد منهم من الآليات لإلقاء التحية، فانا أعرف قسماً كبيراً منهم، وغالبيتهم تدرّب علي يدي عندما كنت مسؤولاً عن دُرُوس القتال في مدرسة الرتباء، وتربطني بهم علاقة احترام ومودة .

صعدت إلى مكتبي، راجعت تعليمات قيادة الجيش وجدول المواعيد، وأجريت عدة اتصالات، وتأكّدت أن كل شيء على ما يرام . ارتشفت القهوة مع آمر السرية وانطلقنا إلى المطار . هناك تم ترتيب كل شيء بالتنسيق مع العقيد الكسندر الملحق العسكري في السفارة الروسية، ولم يتم إغفال أي تفصيل. بعد الانتهاء خرجت إلى باحة المطار لم يبقَ شيء سوى وصول الضيف.

فجأة هزّ سكون الليل هدير  طائرة ضخمة، عرفت طبعاً أنها «انتونوف» عملاق طائرات النقل العسكري وفخر الصناعات السوفياتية التي لا مثيل لها في العالم ، أهتزت أرض المطار، وأيقظ الصوت سكان بيروت التي كانت لا تزال غارقة في النوم، وعلمت لاحقاً أن هبوط انتونوف تسبب بتكسير زجاج عدد من نوافذ البيوت القريبة من مدرج المطار.

 

كان على متن أنتونوف عدد من الشاحنات وثلاث سيارات مصفّحة وفرقة حراسة خاصة. خرج الجميع من الطائرة في أقل من عشر دقائق، وبعد قليل وصلت طائرة ثانية، كانت تُقلُّ مساعد وزير الدفاع الروسي العماد أول ايساكوف . كان طقس تشرين في بيروت منعشاً وهو الأجمل  خلال أيام السنة، ومطابقاً للمقولة الشهيرة« شتاء القاهرة، وربيع دمشق، وخريف بيروت» .

كنت قد تعرّفت إلى ايساكوف في عام ١٩٨٨ إبان دراستي في الاتحاد السوفياتي. يومها كان مسؤولاً في منطقة كييف العسكرية ، وهو رجل  يمتاز بالحزم والشجاعة والصراحة، قلّما يبتسم حين يكون مرتدياً بزته العسكرية، لكنه يُخفي خلف ذاك الوجه الجاد قلباً طيباً مُحباً، وكان شديد الحرص على التواصل الدائم مع أصدقائه.

خدم ايساكوف في أفغانستان، وأصيب عام ١٩٨٦ بجروح خطِرة عندما تعرّض مركز  القيادة المُنتشر حديثاً لقصف مدفعي. كانت فرص النجاة في مثل تلك الظروف شبه معدومة. تم استدعاء مروحية لنقله مع ضباط آخرين، لكن قائد المروحية عندما وصل وجد أن المكان يتعرّض لقصف شديد وغير آمن للهبوط، فأبلغ مركز القيادة أن الهبوط مستحل وأنه عائد إلى القاعدة، لكن قائد الجيش هناك الجنرال دوبينين، لم يسمح بأن يموت العقيد إيساكوف أمام عينيه متأثراً بجراحه. أطلق رشقة تحذيرية من عربة شيلكا باتجاه المروحية، ثم ضبط دوبينين أعصابه وأبلغ الطيار : «إذا لم تهبط فأنا سأُسقِطُ طائرتك» كانت لهجة دوبينين حازمة لدرجة لم تدع مجالاً للشك لدى قائد المروحية أنه سيفعل ذلك. هبطت المروحية وأمّنت القوات المرابطة ساتراً نارياً مضاداً، لحماية المروحية، وتم نقل الجرحى، وهكذا نجا العقيد إيساكوف ورفاقه، ليتدّرج بعدها في الترقية حتى رتبة جنرال الجيش، ويشغل منصب مساعد وزير الدفاع الروسي.

 

من على سُلّم الطائرة ألقى إيساكوف نظرة خاطفة على المكان، وكأنه يصافح بيروت قبل أي شخص آخر،  رحّبتُ به باللغة الروسية، وكان اللقاء جميلاً بعد سنوات. تحدّثناً لبرهة، ثم دخلنا إلى صالون الشرف، هناك كانت استراحة قصيرة وتصريح مقتضب للإعلام، انتقلنا بعدها إلى الفندق.

 

في الصباح انتقلنا إلى وزارة الدفاع، هناك كان اللقاء الأول مع قائد الجيش.

خرج بعده إيساكوف بانطباعات عدّة أخبرني بعضها، وسأتحفّظ عن ذكرها الآن، لكنه إجمالاً كان مرتاحاً للقاء، فلقاءات العسكريين تختلف عن لقاءات رجال السياسة، وتحصل من دون قفازات، وتُقال الأمور كما هي بكل شفافية وجرأة ووضوح.

اللقاء الثاني كان مع رئيس الحكومة . وصلنا إلى السراي استقبلنا مدير التشريفات، ودخلنا إلى قاعة الاجتماعات ، بعد قليل دخل رئيس الحكومة، وبدأت المحادثات بشكل ودّي، وطرح ايساكوف عليه عدة نقاط، وأبلغه أنه يحمل تفويضاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوقيع  اتفاق عسكري مع لبنان، وأن روسيا على استعداد لتزويد الجيش اللبناني بالأسلحة الحديثة التي تُمكّنه من الدفاع عن أرضه .

كان رئيس الحكومة يعلم أن هناك عقبات عديدة أمام تحقيق ذلك، تبدأ بالدعم الذي تُقدّمه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مجاني للجيش،  والتسليح الغربي للقوات المسلحة اللبنانية منذ عقود، وتنتهي بضعف التمويل المخصص في الموازنات اللبنانية لتسليح الجيش.

 

لم يكن صعباً على رجل مخضرم وذكي مثل ايساكوف أن يستشفَّ طعم الرفض في كلام رئيس الحكومة الذي راح يتحدّث عن ؛ مشاكل البلد المالية، والخسائر الكبيرة التي لحقت بالبنية التحتية والاقتصاد اللبناني جراء العدوان الإسرائيلي، وحاجة لبنان إلى المساعدات لإعادة بناء وإعمار ما تهدّم.

قبل انتهاء اللقاء التفت نحوي ايساكوف وطلب مني أن أترجم قوله، (أنا بدلاً من المترجم الذي كان يرافق الوفد)، فقال:

أخبر دولة الرئيس «أن الدولة التي لا تُطعِم جيشها ستُكون مجبرة على إطعام جيش دولة أُخرى» ابتسم رئيس الحكومة وأجاب «نعم نعم صحيح». خرجنا من اللقاء، استكملنا جولاتنا، وفي اليوم التالي  عبّرت الأليات الروسية جسراً حديدياً كان قد أقامه الجنود الروس على أنقاض جسر الدامور الأثري الذي دمره العدوان الإسرائيلي، وأعلن إيساكوف من هناك فتح طريق بيروت نحو الجنوب، وإعادة وصل ما انقطع بين أطراف الوطن الصغير.

 

في اليوم التالي جُلتُ مع الضيف مودّعاً في السوق الحرة لمطار بيروت، وقدمت له هدية صغيرة من النبيذ اللبناني الفاخر، قبِلها كصديق قديم وقال : «سأشرب نخبك في موسكو» ، وقبل أن يصعد إلى الطائرة أضاف : أحسدكم على هذا البلد الجميل، عليكم الحفاظ عليه.  أقلعت الطائرة، وعدت إلى منزلي. وبعد أيام اتصل بي العقيد الكسندر وطلب أن يزورني في منزلي، اتفقنا على موعد ولم يتأخر. رحبت به عندما وصل، فقدم لي هدية من ايساكوف « قنية فودكا جميلة  كُتب عليها  “المجموعة الأمبراطورية”.» ورسالة صغيرة قال في نهايتها : «سأُطلعك على أمر هام عندما نلتقي في المرة القادمة»

 

لم التقِ بايساكوف بعد ذلك اليوم رغم أنني زرت موسكو عدة مرات، وقابلت عدداً كبيراً من ضباط وزارة الدفاع، لكنني عرفت ما كان يُريد أن يُخبرني به الجنرال ايساكوف، وقد أُفصح عن ذلك ذات يوم .

منذ أيام قليلة أعلن وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف أن الشركات الروسية «روسنفت» و «نوفاتك» ستبدآن مطلع عام ٢٠٢٢ التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية اللبنانية، وستعملان ليس كشركات تجارية بل كوكيلة للحكومة الروسية، مما يعني منح عملهما غطاءً روسياً رسمياً في مواجهة أي خطر أو تهديد، وقد تقوم القوات الروسية بتأمين الحماية لهذه الأعمال والمنشآت. هذا إضافة إلى عدة عروض قدمتها الشركات الروسية، في مجال الاستثمار، وإعادة ترميم مرفأ بيروت، وتأهيل سكة الحديد، وآخر العروض الروسية الأسبوع الفائت إنشاء مصفاة لتكرير النفط في الزهراني في جنوب لبنان.

فهل يعود الجيش الروسي إلى بيروت؟؟؟

 

 

 

Back to top button