الولايات المتحدة في مأزق صنعته بيدها
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
تواجه واشنطن اليوم تهديدين عسكريين خطيرين، من قبل أعتى قوتين منافستين، أحدهما في الشرق والأخرى في الغرب، فما بين تهديد الصين، التي تحاصر سفنها وطائراتها المقاتلة تايوان، وما بين حشد روسيا لقواتها العسكرية على الحدود الشرقية لأوكرانيا، تقف واشنطن في موقف لا تحسد عليه، ومشكوك في قدرتها على مواجهته، في ظل ثنائية مصدريه وهويتهما. ولا يعتبر الانفجار العسكري مستبعداً في كلتا الحالتين، فتتمثل استراتيجة روسيا الدفاعية بتوسع حدودها، لضمان أمنها، خصوصاً عندما يكون الحديث عن أوكرانيا الخط الدفاعي الهام بالنسبة لها، بينما تنظر الصين إلى تايوان كجزء من أراضيها الوطنية، وتتمثل سياستها الدفاعية في شل قدرة عدوها على القتال. والتهديد بالهجوم أو الهجوم الفعلي على دول الغير دون مصوغ قانوني أو مبرر منطقي رسختها الاستراتيجية الأميركية عندما أطلقت حربها غير المبررة على الارهاب، مطلع للألفية الحالية، والتي اعتبرت أفغانستان والعراق أهم ضحاياها. وغزت الولايات المتحدة أفغانستان عام ٢٠٠٣، وأسقطت نظام حكم طالبان، بحجة ايوائه ودعمه للقاعدة، التي وجهت اليها أصابع الاتهام في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بينما غزت العراق عام ٢٠٠٣، بحجة نيتها تدمير أسلحة الدمار الشامل فيها، فاسقطت حكم صدام حسين، وأغرقت البلاد في فوضى لم تخرج منها العراق حتى اليوم، ودون أن تجد تلك الأسلحة التي خاضت حربها بحجتها. إن تلك الاستراتيجية الهجومية العسكرية غير المبررة لاجتياح أراضي الغير، هي التي شجعت الدول القوية الأخرى على انتهاجها لتحقيق مصالحها، والتي بدأت بغزو روسيا لجورجيا عام ٢٠٠٩، وتفسر مواقف روسيا والصين اليوم.
صعدت الولايات المتحدة من لهجتها ضد الصين في قضية تايوان، بعد أن وجهت استراتيجيتها الخارجية لمقاومة الصعود الصيني. ورغم أن التوجه الأميركي بالتصعيد ضد الصين قد بدأ في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، ورصد في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب، الا أنه تبلور بوضوح في عهد الرئيس الحالي جو بايدن. أكد بايدن أن الصين منافس عسكري وجيوسياسي خطير، وخصم أساسي لواشنطن، وأنه لن يسمح للصين بالتفوق عسكرياً على الجيش الأميركي خلال فترة رئاسته، معتبراً أن ذلك يمثل أولوية قصوى لإدارته. وبدأ تحول الموقف الأميركي تجاه تايوان منذ مطلع عهد بايدن الذي دعا في حفل تنصيبه الممثل الدبلوماسي لتايوان في الولايات المتحدة، وهي المرة الأولى منذ عام ١٩٧٩ التي يشارك فيها ممثل دبلوماسي عن تايوان بشكل رسمي في أداء اليمين الرئاسي. ورغم تعهد واشنطن بحماية تايوان من أي هجوم محتمل من قبل الصين، حافظت الولايات المتحدة طوال السنوات الماضية على تعهدها ب “الصين الموحدة”، ولم تعترف ب تايوان كدولة كاملة السيادة، ولم ترتبط معها بمعاهدة دفاع مشترك، الأمر الذي سمح ببقاء العلاقات الأميركية الصينية ضمن حدود سياسية ودبلوماسية معقولة. وفي تحول جديد حملته حقبة بايدن، أعرب إيلي راتنر مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادي قبل أيام، أن تايوان عقدة مهمة ومرساة لأمن الولايات المتحدة في المنطقة، كما اعتبر دانييل كريتنبرينك مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق أسيا والمحيط الهادئ، بأن تايوان شريك مهم لبلاده، ناهيك على أنها ديمقراطية رائدة. وتكمن أهمية هذه التصريحات الجديدة في أنها توفر منطق يسمح للولايات المتحدة بدعم فصل دائم لتايوان عن الصين، ومعارضتها لوحدة تايوان مع الصين، حتى وإن جاء بطريق سلمي. ورغم استمرار تأكيد الصين على عدم نيتها غزو تايوان، وتفضل صراحة ضمها بشكل سلمي، الا أن تطورات الموقف الأميركي، وتكثيف تواجدها العسكري في المناطق المحيطة بتايوان، يفسر هذا التحشيد العسكري الصيني الخطير فيها.
وتصاعدت الأزمة الأوكرانية الأخيرة في أعقاب تقدم أوكرانيا للانضمام لحلف الناتو قبل أسابيع، ورفض الحلف الانصياع للطلب الروسي، برفض قبول عضوية أوكرانيا، معتبرا أن هذا الأمر يقرره فقط أعضاؤها الثلاثون. ونقلت روسيا ١٠٠ الف جندي روسي إلى مناطق قريبة من الحدود الاوكرانية، وهو الحشد الثاني في هذه المنطقة خلال هذا العام، مشعلة فتيل أزمة في المنطقة، ومبررة تحركها بأنه يعكس حقها في الدفاع عن نفسها. لم تكتف روسيا بذلك، بل قامت أيضاً باجراء اختبار لصاروخ مضاد للأقمار الصناعية، لصد أي محاولة غربية موجهة ضد أنظمة الأقمار الصناعية الخاصة بها، كما ثبتت أنظمة احتياطية أرضية، لتعطيل عمل الاتصالات والملاحة الغربية، عندما يقتضي الأمر. تطالب روسيا بضمانات غربية مكتوبة، لاغلاق الباب أمام انضمام كل من أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو، معتبرة أن ذلك يهدد أمنها، لأنه يوسع التكتل العسكري للحلف شرقاً بالقرب من حدودها، كما يُفْعّل العمل بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، والذي يعتبر الاعتداء على أحد أعضائه، اعتداءً على جميع أعضاء الحلف. وتعتبر روسيا ذلك التطور انتهاك للمبدأ الرئيس لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والذي تنضوي في إطاره دول القارة، والمتمثل في: “عدم تعزيز أمن أية دولة على حساب أمن الدول الأخرى”.
وتعطي روسيا أهمية خاصة لمنطقة البلقان لعدة أسباب، أولها أنها تشكل نقطة ضعف للاتحاد الأوروبي، اذ يعتبر الجزء الوحيد من أوروبا الذي لم يتم دمجه بالكامل ضمن هياكله، ويترافق ذلك العامل مع عامل ثاني موازٍ وعلى نفس القدر من الأهمية، والذي يتمثل في عدم قدرة روسيا على اختراق منطقة البلقان، كما فعلت في منطقتي أسيا الوسطى والقوقاز، في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي. إن ذلك يفسر اهتمام روسيا بالاعتماد على لاعبيين محليين في منطقة البلقان، أو التدخل العسكري بالقوة، إن اقتضى الأمر. تدعم روسيا النظام العسكري في بيلاروسيا، واحتلت خمس جورجيا عام ٢٠٠٩، وغزت شبة جزيرة القرم عام ٢٠١٤، وتدعم جماعات انفصالية في أوكرانيا، وجميعها محاولات تحبط إمكانية انضمام تلك البلدان لحلف الناتو. في أوكرانيا، أدى انتخاب فيكتور يانوكوفيتش، قبل أحد عشر عاماً، إلى إقتراب البلاد نحو روسيا، وتخليها عن محاولات انضمام نظامها السابق لحلف الناتو. الا أن ذلك التحالف الروسي الأوكراني انتهى، بعد الإطاحة ب يانوكوفيتش، في ثورة عرفت ب “ثورة الميدان” عام ٢٠١٤، وبدأت منذ ذلك الوقت مساعي الرئيس الجديد بترو بوروشينكو للانضمام إلى حلف الناتو، وترفض الحكومة الأوكرانية تبنى مقترحات اتفاقية مينسك، التي تضمن انتقال جزئي للسلطة إلى جمهوريتي دونيستيك ولوهانسك، لأنها تمنحهما حق النقض على سياسات أوكرانيا الخارجية، الأمر الذي سيمنح موسكو باباً خلفياً في عملية صنع القرار الأوكراني.
في عام ٢٠٠٧، أصدرت الولايات المتحدة تشريع تلتزم من خلاله بمساعدة أوكرانيا وجورجيا في مساعيهما للانضمام لحلف الناتو، وفي العام التالي أصدر حلف الناتو قرار يسمح بانضمام كل من البلدين لعضويته، وتفاقمت الأزمة في المنطقة مؤخراً عندما تقدمت أوكرانيا بطلب رسمي للانضمام للحلف. وليس من المتوقع أن يكون هدف فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي إشعال حرب حقيقية في المنطقة، والتي قد ينتج عنها قطع علاقات بلاده مع الغرب، واحتمال مواجهة الجيش الروسي لمقاومة وحرب عصابات في الجزء المنوي احتلاله، ناهيك عن إمكانية استضافة الأراضي غير المحتلة من أوكرانيا لقوات حلف الناتو، اضافة إلى إمكانية تطوير قدرات الحلف العسكرية، كما حدث في عام ٢٠١٤. ويفضل بوتين الحصول على تنازلات أميركية غربية تتعلق بعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، دون حرب. ويعتبر تركيز واشنطن على مواجهة تهديدات روسيا بالاعلان عن نيتها والدول الغربية على رأسها السبعة الكبار، فرض عقوبات قاسية على روسيا، تشمل عقوبات إقتصادية، إشارة إلى عدم نيتها التدخل عسكرياً لمواجهة أي اعتداء روسي على أوكرانيا. وتحرص روسيا على علاقات جدية مع الغرب والولايات المتحدة، وتقلق بشكل خاص من فرض عقوبات على خط أنابيب الغاز الروسي الجديد “نورد ستريم ٢”، والذي قد يؤثر تعطيل العمل به على امداداته لدول أوروبا أيضاً، خصوصاً في فصل الشتاء، حيث تعمد بوتين إثارة أزمة أوكرانيا الاخيرة خلاله.
وعلى الرغم من أن الناتج القومي الأميركي لايزال أكبر من مثيله الصيني أو الروسي، كما أن الدولار يسيطر عموماً على النظام المالي الدولي، ويعتبر الجيش الأمريكي الأكبر والأكثر عدة عالمياً، كما أن القدرات الأميركية السيبرانية متفوقة عن نظيراتها في الدول الكبرى الأخرى، كما تملك الولايات المتحدة الكثير من الحلفاء، الا أن معطيات الصراع في الشرق والغرب، مع الصين وروسيا يتم حسابها ضمن عوامل أخرى مهمة، قد تؤثر على نتائج أي عملية عسكرية قادمة. وتعتبر قضية تايوان للصين وأوكرانيا لروسيا قضايا مصيرية، سيدافعان عنها بكل قوتهما، خصوصاً وأن هاتين المنطقتين تعتبران منطقتين حيويتين لكلا البلدين، ناهيك عن أن والصين وروسيا أكثر خبرة بتضاريس وثنايا تلك المنطقتين، وهما أفضل قدرة على الحشد العسكري البشري والمعداتي فيهما في حال المواجهة.
وتمتلك الولايات المتحدة ثلاثة ألوية قتالية فقط في أوروبا، اثنان منها مسلحة باسلحة خفيفة، ومعدات قديمة، كما أن اللجوء إلى سلاح الطيران سيواجه بدفاعات روسية جوية متقدمة، ولديها أيضاً قدرة على التشويش الالكتروني العالي، كما ليس من السهل حشد دعم جميع الدول السبعة والعشرين للاتحاد الاوروبي للتصدي لروسيا. ولا يعتبر وضع الولايات المتحدة العسكري في إطار قضية تايوان مقارنة بالوجود الصيني بالاحسن حالاً عن أوروبا. هذا بالإضافة إلى أن كل من الصين وروسيا دول عظمى، ولا تعتبر فكرة خوض حرب معهما، خصوصا في آن واحد فكرة جيدة.
الصين الآن في طريقها لامتلاك أكبر قوة بحرية في العالم، وضاعفت قدراتها النووية من ثلاثة إلى خمسة أضعاف، اذ تمتلك الان ما بين ٢٠٠ الى ٣٥٠ رؤوس نووي ، ويعتقد أنها ستمتلك ما بين ١٠٠٠ إلى ٢٥٠٠ رأس نووي بحلول عام ٢٠٣٠. كما أن لدى الصين الثلاثية النووية من القاذفات والغواصات والصواريخ الباليستية العابرة للقارات. وطالما احتفظت الصين بترسانة نووية أصغر بكثير من روسيا أو الولايات المتحدة، الأمر الذي يضمن لها امتلاك الحد الأدنى من قدرة الردع، وذلك عبر توجيه ضربة إنتقامية ردًا على الضربة النووية الأولى للعدو. وأما بالنسبة لروسيا، فتمتلك الآن واحدًا وعشرين نوعًا جديدًا من الأنظمة النووية، ويمكنها إضافة آلاف الرؤوس الحربية إلى ترسانتها النووية الحالية، والتي يتواجد أكثر من نصفها خارج حدودها. تعزز روسيا أسطولها في المحيط الهادئ، ويعتقد خبراء أن أسطولها في المحيط الهادئ والبحر الشمالي أقوى تشكيلتين بحريتين لروسيا، وتشمل أيضًا أساطيل في البلطيق والبحر الأسود وبحر قزوين، الا أن الاخيرة تقع ضمن دائرة التوتر مع قوات الناتو بشكل روتيني.
كما تواجه الولايات المتحدة صعوبة كبيرة في تمرير ميزانية الدفاع الان، الأمر الذي يعني عدم قدرتها في الخوض بمشاريع عسكرية جديدة أو توفير دعم لحلفائها سواء من خلال بيع المعدات العسكرية الأميركية أو تأمين دعمها. ليس من المتوقع أن يسلك الاتحاد الأوروبي سلوكاً موحداً تجاه حرب الكرملين إن حدثت، تماماً كما سيكون موقفها غير موحد تجاه هجوم صيني قد يحدث على تايوان. وعودة إلى الماضي، قوبل احتلال روسيا لخُمس أراضي جورجيا عام ٢٠٠٨ وضم شبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤، دون فرض عقوبات ذات مغزى في الحادث الاول، وطفيفة في الحادث الثاني، كما لا تتفق دول الاتحاد على موقف واحد تجاه الصين.
يقف جو بايدن اليوم في موقف ضعيف، في مواجهة هذه الأزمة المتشعبة، التي خلقتها بلاده، في إطار عدائها المعلن الموجه ضد الصين وروسيا مؤخراً، إذ أن محاولات واشنطن لمحاصرة نديها في عقر دارهما اليوم ليس بالأمر السهل، خصوصاً وأن البلدين تستعيدان عصرهما الذهبي، الذي كان خلال خمسينيات القرن الماضي، فازدادت مشاريعهما الخاصة بالنفط والغاز، وتطور تشييد الجسور الجديدة للسكك الحديدية والطرق السريعة التي تربط البلدين، بالإضافة إلى التدريبات العسكرية المشتركة، ناهيك عن تطور التجارة والاستثمار بين البلدين. ورغم أن نتائج قمة بايدن- بوتين الافتراضية الأخيرة، قد سمحت بتجميد الأزمة الروسية الأوكرانية مؤقتاً، الا أن إمكانية التصعيد لايزال مفتوحاً، شرقاً وغرباً، وليس في مصلحة الولايات المتحدة مواجهة العملاقان الصيني والروسي، وفي آن واحد.