أميركا لا تنسحب من الشرق الأوسط… ما تحتاج إليه هو استراتيجية جديدة، لا مغادرة

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية

هل على واشنطن تعزيز وجودها العسكري في الشرق الأوسط أم الانسحاب؟ هذا سؤال صار شاغل كثير من المحللين الأميركيين، منهم المحللة داليا داسا كاي من مركز بيركل للعلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس UCLA. فهي تناولت في فورين أفيرز المسألة في الأول من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، قائلة فيما يلي: لم تخف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رغبتها في إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط. وفي مقابلة أجريت مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن قبل توليه منصبه، قال إنه يتصور أن رئاسة بايدن ستنجز “أقل وليس أكثر” في المنطقة.

حالياً، تهيمن “المنافسة الاستراتيجية” بين الولايات المتحدة والصين على خطاب السياسة الخارجية الأميركية، ما يمثل إجماعاً بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن المنقسمة في ما يتعلق بالأمور الأخرى. ولكن على الرغم من كل الحديث عن الانسحاب من الشرق الأوسط والقلق الإقليمي الحقيقي من تخلي الولايات المتحدة عن المنطقة في أعقاب انسحابها من أفغانستان، فإن الواقع على الأرض يشير إلى خلاف ذلك، إذ لا تزال واشنطن تحتفظ بشبكة مترامية الأطراف من القواعد العسكرية كما أنها أثبتت استعدادها لاحتضان حتى أكثر شركائها بغضاً باسم تعزيز الأمن الإقليمي. ومن المرجح أن تؤدي الديناميكيات الإقليمية إلى تفاقم الاضطرابات والعنف، ما يعزز الدعوات إلى استمرار الوجود الأميركي.

ولا ريب في أن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب العالمي الوحيد في الشرق الأوسط، إذ تعاظمت الاستثمارات الاقتصادية والتكنولوجية الصينية والنفوذ العسكري الروسي خلال العقد الماضي. وفي هذا المنحى، يعتبر أن اللحظة [المرحلة] الأميركية في المنطقة طويت وانقضت. وعلى الرغم من رغبة الأميركيين في طي التعامل مع الشرق الأوسط، فإن هذه المنطقة لم تنته بعد من الولايات المتحدة. والجدير بالذكر أن الانسحاب الأميركي ليس مجرد أسطورة فحسب، بل يحول من دون نقاش بارز ووازن في واشنطن حول سبل تكييف الولايات المتحدة من سياساتها وتعديلها من أجل تحسين حياة مواطني المنطقة والمساهمة في نظام سياسي أكثر إنصافاً في الشرق الأوسط.

على الرغم من كل المخاوف، فإن المشاركة العسكرية الأميركية تظهر استمرارية أكثر مما هو معترف به بشكل عام.  لم تؤد “إعادة تقويم” بايدن العلاقات مع الدول العربية إلى وقف التعاون. والمضي قدماً في العلاقات لا يمت بصلة إلى موقف إدارة تدير ظهرها لشركاء الولايات المتحدة التقليديين. ولكن في الوقت نفسه، أشارت إدارة بايدن إلى تعديل موقفها العسكري من خلال الإعلان عن خفض أنظمتها المضادة للصواريخ في المنطقة، لتركز مجدداً على التحدي الذي تمثله روسيا والصين.

وتقوم وزارة الدفاع الأميركية حالياً بمراجعة رئيسة لوضع القوة العالمية (أو مراجعة الموقف العالمي)، التي من المحتمل أن تؤثر في المرابطة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، إذ تتصدر أولويات واشنطن التهديدات في منطقة المحيطين الهندي والهادي. ولكن يبقى من المستبعد أن تقلص الولايات المتحدة قواتها في المنطقة الذي يبلغ عديدها عشرات الآلاف تقليصاً جذرياً، أو أن تكون واشنطن في وارد تجاهل الاحتياجات الأمنية المتصورة لشركائها الإقليميين الرئيسيين.

الحجة الاستراتيجية لتقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط واضحة ومباشرة. بالإضافة إلى الحاجة إلى تحويل الموارد إلى آسيا نظراً إلى الظروف الجيواستراتيجية المتغيرة، انخفض اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط إلى حد كبير.

فضلاً عن ذلك، يجري أيضاً تدقيق متزايد حول ما إذا كانت القواعد الكبيرة فعالة لمهام مكافحة الإرهاب أو أنها قد تثير مزيداً من الهجمات الإيرانية بدلاً من ردعها. في ذلك الإطار، يذهب بعض المحللين إلى أن مثل هذا الانسحاب يترك الحلفاء أكثر عرضة للهجمات الإيرانية بواسطة الدرون.

في الواقع، هذه الحجج مقنعة. لكن الاعتبارات السياسية، والجمود البيروقراطي، واستمرار تأثر الولايات المتحدة بتقلبات سوق النفط العالمية، والمصالح الاقتصادية للصناعات الدفاعية الأميركية، تجعل ذلك الانقلاب السريع في المسار غير محتمل، بغض النظر عن المنطق الاستراتيجي.

كما أن استمرار تركيز الحزبين الأميركيين على إيران سيصب أيضاً في مصلحة وجود عسكري أميركي كبير. علماً أن التدريبات الأمنية البحرية المشتركة، التي تنفذ بهدف احتواء إيران، تشمل الآن الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين. واستطراداً، من غير الواضح ما إذا كانت القواعد الأميركية الكبيرة معرضة لهجمات إيرانية كما يخشى البعض. وفي سياق متصل، يعد سحب أنظمة الدفاع الصاروخي وحاملات الطائرات من الشرق الأوسط علامة على انخفاض الوجود الأميركي في المنطقة، ويرجح أن تصبح وتيرته أسرع مع تحول الموارد إلى آسيا. لن يحب الشركاء الإقليميون ذلك، لكنهم سيتعلمون كيفية التعايش معه. في المقابل، لا يسري ذلك على إغلاق البنى التحتية العسكرية الضخمة، فهذا مسألة مختلفة تماماً.

ترى إيران أن استمرار الوجود العسكري الأميركي في المنطقة يمثل في آن واحد تهديداً لمصالحها وهدفاً ملائماً. في الوقت الذي تسعى فيه طهران إلى تعزيز قوة ردعها، قد تفضل ضرب أعداد صغيرة من القوات الأميركية في مناطق الصراع بدلاً من القواعد الأميركية الكبيرة في الخليج. في ذلك الإطار، ألقى مسؤولون أميركيون وإسرائيليون باللوم على إيران في شن هجوم بطائرة “درون” على قاعدة التنف الأميركية في سوريا في أكتوبر (تشرين الأول)، كرد انتقامي ربما على الضربات الجوية الإسرائيلية في سوريا. كذلك، تضاءل الوجود الأميركي في العراق إلى آلاف الجنود فحسب الذين ما زالوا في مرمى هجمات الميليشيات المدعومة من إيران.

واستكمالاً، أصبح العداء بين الولايات المتحدة وإيران متجذراً بعمق داخل مؤسسات البلدين (لا سيما أن المتشددين عززوا سيطرتهم في طهران) لدرجة أن محاولات إعادة ضبط العلاقة أمر مستبعد في السنوات المقبلة. في المقابل، أدى قرار إدارة ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي واعتماد سياسة “الضغط الأقصى” الرامية إلى عزل إيران دبلوماسياً واقتصادياً، إلى زيادة عدوانية طهران عوضاً عن تخفيفها. وبعد اغتيال الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني في يناير (كانون الثاني) 2020، دخل البلدان في صراع عسكري مباشر لأول مرة منذ ثمانينيات القرن الماضي. وحتى لو تمكن صانعو القرار الأميركي من تجنب حرب شاملة مع إيران واحتواء طموحاتها النووية، لا يزال من المحتمل أن يجدوا أنفسهم في صراع منخفض الحدة مع طهران على النفوذ الإقليمي.

على الرغم من أن إيران حافظت مبدئياً على امتثالها للاتفاق النووي بعد الانسحاب الأميركي، فإنها وسعت برنامجها بشكل كبير خلال العام الماضي. إذ زادت من تخصيب اليورانيوم بشكل يتخطى قيود الاتفاقية، ما جعلها تقترب من الوصول إلى المستويات المستخدمة لصنع الأسلحة. في المقابل، يحرز البحث والتطوير في مجال أجهزة الطرد المركزي المتطورة تقدماً. والجدير بالذكر أن وقت التخصيب، أو الوقت اللازم لكي تنتج إيران ما يكفي من المواد المخصبة لبناء سلاح نووي، قد انخفض إلى أشهر بدلاً من عام في ظل قيود الاتفاقية النووية. بالإضافة إلى ذلك، لم يعد المفتشون النوويون يحصلون على التصاريح اللازمة بموجب الاتفاقية للوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية. في الواقع، فاقمت كل تلك الخطوات التوتر في علاقات إيران بالولايات المتحدة والمجتمع الدولي وزادت مصادره.

ولم يعد واضحاً ما إذا كان الإيرانيون حريصين على إحياء الصفقة كما كانوا من قبل. لم يكن المسؤولون الإيرانيون على عجلة من أمرهم في العودة إلى المحادثات التي جرت في فيينا من أجل إعادة إحياء الاتفاق بعد انتخاب إبراهيم رئيسي في يونيو (حزيران) 2021. ثم وافقوا أخيراً على العودة إلى المفاوضات في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت إدارة بايدن ستتمتع بالقدرة السياسية اللازمة لتفي بقرار خفض العقوبات الضروري لاستئناف العمل بالاتفاقية، أو ما إذا كانت إيران ستوافق على التراجع النووي المطلوب. ومن شبه المؤكد أن إسرائيل، التي كانت إدارة بايدن حريصة عليها وتراعيها، لن تدعم تقديم تنازلات لإيران.

في ذلك السياق، سبق أن بدأ المسؤولون الأميركيون بإجراء مناقشات مع نظرائهم الإسرائيليين حول “الخطة ب” [الخطة البديلة] في حالة فشل المحادثات. وستشمل هذه الاستراتيجية مزيداً من الضغوط الاقتصادية وربما الخيارات العسكرية. ومن غير الواضح كيف ستؤدي سياسات “العودة إلى المستقبل” [التفكير في الماضي وما كان متاحاً] إلى اتفاق نووي جديد، لا سيما في غياب مستوى الدعم الدولي الذي كان ممكناً قبل اتفاقية 2015. وبطريقة موازية، من الصعب تصور مشاركة الصين في ممارسة ضغط اقتصادي متجدد على إيران، في ظل تصاعد التوترات بين بكين وواشنطن. في الواقع، أعربت الصين أخيراً عن مواقف أكثر تعاطفاً [تضامناً] بشأن حقوق إيران بتخصيب اليورانيوم في أعقاب قرار الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بيع غواصات نووية لأستراليا، الأمر الذي تعتبره بكين خطر انتشار للأسلحة النووية. ما قد يكون مرجحاً أكثر في حالة الفشل في إحياء الاتفاق النووي هو تكرار رد إيران على سياسات الضغط الأقصى التي اعتمدتها إدارة ترمب، والمتمثلة بتسريع الضربات العسكرية في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك الهجمات الموجهة ضد القوات الأميركية.

إذا انهارت الصفقة النووية، فسيكون من الصعب على الولايات المتحدة تقليص وجودها في الشرق الأوسط وإيلاء وجهة أخرى الأولوية والتركيز. ومن المؤكد أن الإسرائيليين لن يضعوا إيران في درجة ثانية من سلم الأولويات، ضامنين تقريباً استمرار التصعيد. علماً أن “حرب الظل” بين القدس وإيران قد توسعت بشكل كبير بالفعل، إذ انتقلت إلى ما وراء المسرح السوري، حيث تهاجم إسرائيل بانتظام أهدافاً متحالفة مع إيران، ووصلت إلى مواجهة بحرية نشطة. كما واصلت إسرائيل حملة الاغتيالات التي استهدفت كبار العلماء النوويين الإيرانيين وهجماتها المباشرة على البنية التحتية النووية الإيرانية، بما في ذلك انفجار في منشأة نطنز النووية الإيرانية في أبريل (نيسان) 2021 ما إن بدأت الدبلوماسية في فيينا. حتى إن الحرب السيبرانية بين إسرائيل وإيران توسعت لتطال أهدافاً مدنية.

في المقابل، تجنب رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت حتى الآن الخلاف العلني مع واشنطن بشأن الملف الإيراني. لكن على الرغم من أن أسلوبه قد يختلف عن نهج المواجهة الذي اتبعه رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، فإن سياساته لا تبدو مختلفة بشكل ملحوظ. في الحقيقة، حافظ بينيت على الحملة العسكرية الإسرائيلية السرية ضد البرنامج النووي الإيراني وتحدث عن اعتماد استراتيجية “الموت البطيء” [بألف ضربة] تجاه طهران. بينما أدلى قادة إسرائيليون آخرون بتصريحات علنية يعيدون فيها تأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد إيران، وهو أمر يتم تفسيره على نطاق واسع بأن تل أبيب تحافظ على خياراتها العسكرية. والجدير بالذكر أن إسرائيل ليست مجرد حليف في المعاهدة للولايات المتحدة، بل إن الالتزام السياسي الأميركي بضمان أمنها متين جداً إلى حد يجعل من الصعب على واشنطن الوقوف موقف المتفرج وعدم التدخل في حالة نشوب صراع إيراني-إسرائيلي شامل.

بطريقة موازية، يستمر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في الاحتدام، حتى لو كانت القضية الفلسطينية ذات أولوية أدنى بالنسبة إلى المنطقة وواشنطن. في الواقع، قد يفضل صانعو السياسة تحسين ظروف الفلسطينيين الاقتصادية لتجنب الضغط على الإسرائيليين في القضايا الجوهرية مثل التوسع الاستيطاني. وفي ذلك المجال، أظهر اندلاع العنف في قطاع غزة في مايو (أيار) أن الولايات المتحدة يمكن أن تعمل خلف الكواليس لاحتواء الصراع، لكنها لا تستطيع تجاهله. وفي سياق متصل، يعتبر التطبيع بين إسرائيل والدول العربية تطوراً إقليمياً مرحباً به، لكنه لا يمكن أن يحل محل تسوية بين الأطراف التي تخوض حرباً فعلية.

وخلصت داليا داسا كاي مما تقدم أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن الشرق الأوسط. في الواقع، هي تواجه مشكلة مختلفة ربما، لا تكمن في المغادرة، بل في بقائها هناك على نحو غير مناسب.

ولاحظت أن إدارة بايدن تضاعف من التزاماتها العسكرية لطمأنة الشركاء في الشرق الأوسط، الذين ما زالوا متشككين بشأن مسار سياستها الخارجية. وفي ذلك الإطار، تعتبر مبيعات الأسلحة خير دليل على أن واشنطن لا تزال تعطي الأولوية لشراكاتها العسكرية في المنطقة. لكن تلك الجهود، خصوصاً عندما لا توازن مع التزام الأمن البشري من جهة وتحديات الحوكمة من جهة أخرى، يمكن أن تؤجج القمع والصراعات الإقليمية. (تستثمر الولايات المتحدة حالياً في المساعدة العسكرية المقدمة لمصر سنوياً بقدر ما تستثمره في مساعدات التنمية الاقتصادية للمنطقة بأكملها). وهذه الحال هي السبيل الأمثل إلى أزمة دائمة ومزمنة من شأنها أن تجبر الولايات المتحدة على اتخاذ خطوات مكلفة لاحتواء وصد أشكال جديدة من التطرف والعنف.

وقد يكون الأسلوب الأفضل للمضي قدماً هو اغتنام فرصة إعادة التوازن الإقليمي لتقليص الالتزامات العسكرية وزيادة المساعدة الاقتصادية والإنمائية. لذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة تركيز انتباهها ومواردها على التحديات التي تؤثر في حياة الناس اليومية. وتجدر الإشارة إلى أن بناء القدرة على الصمود في مواجهة تغير المناخ في منطقة تعاني أصلاً ضعف البنية التحتية، وزيادة الفرص المتاحة أمام الشباب هي أنواع القضايا التي يجب أن تتصدر جدول الأعمال عندما يزور المسؤولون الأميركيون الشرق الأوسط. كما ينبغي أن يستند الدعم الأميركي في هذه المجالات إلى العمل الجاري الذي يفتقر إلى الموارد ولا يتم تسليط الضوء عليه بما يكفي.

 

في هذه الفترة من التقلب الاستراتيجي، تحظى الولايات المتحدة بفرصة إنجاز الأمور على نحو مختلف، من أجل تطوير وتنفيذ استراتيجية للتنمية والإنصاف. وبدلاً من الاستثمارات العسكرية الضخمة، يمكنها الاستثمار في حلول لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية التي تمنع مواطني المنطقة من الحصول على حياة أفضل. كذلك، يمكن للولايات المتحدة، إلى جانب حلفائها الأثرياء، مساعدة الشركاء الذين يريدون تحويل المنطقة من كتلة من المشكلات إلى مصدر للأمل والإمكانات المتاحة. في كلتا الحالتين، لن تمشي الولايات المتحدة والشرق الأوسط كل في سبيله ولن يفترقا، ولكن على واشنطن أن تغتنم الفرصة لتكون جزءاً من الحل، لا جزءاً من المشكلة.

زر الذهاب إلى الأعلى