المعادلة الأعمق من فيينا
بقلم: وليد فارس
حلفاء أميركا يبغون الدفاع عن أمنهم القومي بوجه إيران
النشرة الدولية –
تتابع الصحافة العربية والشرق أوسطية باهتمام كبير التصريحات الصادرة من واشنطن عن مسؤولين مختلفين في الإدارة، وبخاصة تلك الصادرة عن البيت الأبيض ووزارة الخارجية، حيال تقدم، تأخر، نجاح، أو عدم نجاح المحادثات بين الدول المشاركة في الـ”JCPOA”، وإيران، والولايات المتحدة. وكذلك تنكب الصحافة الغربية والعالمية على تطورات المباحثات غير العلنية بين طهران وواشنطن حول حدود المطالب العميقة “المتبادلة”، وقد كتبنا عن بعضها في المقال السابق.
السؤال المُلحّ في هذه المرحلة هو حول نتيجة مفاوضات فيينا… هل ستخرج النتائج إلى العلن؟ هل ستعود إدارة جو بايدن والقيادة الإيرانية معاً إلى الاتفاق، أو ربما إلى صيغة جديدة؟ أم هل وصلت الإدارة إلى مفترق طرق، وتستعد، كما يلمح بعض مسؤوليها، لاستعمال الوسائل العسكرية لإجبار إيران على القبول بالشروط الغربية؟ هناك نظريتان في واشنطن.
النظرية الأولى: بايدن ضاق ذرعه
هذه النظرية التي تروّج لها الأوساط القريبة من الإدارة، وبخاصة في الدوائر الإعلامية، تصف الوضع في البيت الأبيض، وعبر أجهزة الإدارة، وتتلخص بأن الرئيس وكبار مساعديه قد ضاق ذرعهم من محاولات طهران التهرب من مسؤولياتها، والتحجج بشروط تعجيزية، وأن الإدارة، ولو هي ملتزمة بالعودة للاتفاق، ووضعت ثقلها في الميزان منذ أشهر، باتت قريبة من اللجوء إلى ضغوط غير مسبوقة، وتقول هذه الأصوات والأقلام إن صبر الإدارة قد نفد تقريباً، وإن استقرار الشرق الأوسط هو في الميزان، أضف إلى ذلك أن البنتاغون بات يعلن تكراراً أن إيران تزيد من استعداداتها العسكرية والميليشياوية، لا العكس، وتصرح القيادات العسكرية الأميركية بأنها تهيئ لاحتمالات المواجهة إذا أمرتها الإدارة بذلك، وتضيف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أن عدم إجبار طهران لقبول شروط الغرب وفتح مراكز التخصيب قد يصطدم بمهلة، إذ لن يتمكن المجتمع الدولي من فرض شروطه على إيران.
وتهمس المصادر في كتلة الأكثرية للحزب الديمقراطي في الكونغرس بأن عدم حسم الموضوع سيؤدي إلى كارثة سياسية انتخابية هذا العام، كما كتبنا سابقاً، فالرأي العام الأميركي الذي وُعد بعودة سريعة ومضمونة لاتفاق ناجح لن يفهم عدم تمكن فريق بايدن من قدرته على فرض الاتفاق على إيران، إذ إن الإدارة كانت قد انتقدت سلفها دونالد ترمب، “بعدم ممارسة الدبلوماسية الذكية في العلاقات مع الشرق الأوسط واستعمال القوة العسكرية”، والآن، بعد أقل من سنة، لم يصل البيت الأبيض الجديد بعد إلى حسم الموضوع مع إيران، لذلك، وبحسب هذا التفسير، لا يمكن لفريق بايدن إلا أن يكسر الحلقة المفرغة ويخرق خطاً أحمرَ ذاتياً وضعه لنفسه، وهو توجيه عمل عسكري لإيران لإخضاعها، ويقارن البعض ذلك بضربة الرئيس رونالد ريغان لمعمر القذافي في 1986، الذي رُدع منذ تلك الغارة.
ويضيف البعض الآخر أن أوساطاً داخل الإدارة تحذر أيضاً من عدم تلبية حاجات الأمن القومي للحلفاء الإقليميين الأساسيين، وأهمهم إسرائيل، والسعودية، ومصر، فهذا المثلث له وقع كبير على تموقع الولايات المتحدة الاستراتيجي، فلا يمكن تصور القدرة الاستراتيجية الأميركية بين المتوسط والخليج دون وجود هذه الدول الثلاث. واثنتان منها، بمواجهة مباشرة مع إيران، وقوى الضغط لهذه الدول، وبخاصة إسرائيل والسعودية، لها تأثير مهم في واشنطن، ولا يمكن تجاهلها.
ويظهر واضحاً من تصريحات المسؤولين في الإدارة التي تؤكد وقوف واشنطن “إلى جانب حلفائها بوجه نشاطات إيران الخبيثة”، أن البيت الأبيض وحلفاءه السياسيين يعرفون أهمية الحليفين في المنطقة وفي الداخل الواشنطني. إذاً، الخلاصة، حسب هذه النظرية، أن الإدارة ضاق ذرعها، وقد وصلت تقريباً إلى نهاية المُسايرة مع إيران، فإما أن تخضع هذه الأخيرة، وإما أن يتم إخضاعها بالقوة الأميركية.
النظرية الثانية: مناورة لكسب الوقت
التحليل المقابل يوافق على ما يطرحه معسكر القائلين إن بايدن على وشك تغيير المسار، لجهة وجود ضغط كبير ومتصاعد على البيت الأبيض من الحلفاء، والدفاع، وبعض أعضاء الكونغرس، ويوافق أيضاً أن إيران تناور إلى آخر الحدود، وأن الإدارة جدّية في الوصول بسرعة للخروج من معادلة الانتظار، ولكن النظرية الثانية تختلف عن الأولى حيال نوايا الأطراف المتداخلة، والحدود التي سيذهبون إليها. فالسؤال عند هذا الفريق هو كما يلي: هل ستذهب الإدارة إلى حدّ قطع الخيط مع طهران أم لا؟
بعض العارفين داخل معسكر بايدن يعتقد أن هناك فارقاً بين تصريحات المسؤولين الرسميين حول “إجبار إيران” على الالتحاق بفيينا على أساس ضغط أحادي من الإدارة، والمفاوضات الثنائية غير العلنية التي يقودها روبيرت مالي مع الإيرانيين خارج إطار فيينا، ويشير العارفون إلى آلية التفاوض غير الرسمي بين فريق باراك أوباما ما بين 2013 و2015، لإنتاج الاتفاق النووي في 2015، فالطواقم تبدّلت في مواقعها، ولكنها لا تزال هي هي، لذا تفيد المصادر بأن المواقف العلنية المتشددة تجاه إيران بسبب تأخرها عن الالتحاق بالمسار، لا تتطابق مع مواقف المفاوضين التنفيذيين باسم الإدارة مع ممثلي القيادة الإيرانية، وهذا لا يعني أنه ليس هناك من هو غير راضٍ عن أداء الإيرانيين في فريق بايدن، بالعكس، المنتقدون طهران كثيرون، ولكنّ الممسكين بملف التفاوض لا يزالون متمسكين، وبقوة، بضرورة إعطاء الوقت الكافي للفريق الإيراني. ماذا تعني معادلة كهذه؟
إن عنت فهي تعني أن الأكثر تمسكاً ضمن الإدارة بالاتفاق وبضرورة حمايته إلى أبعد الحدود هو الفريق المفاوض في هذا الملف من ناحية، وقوى الضغط الأوسع من ناحية ثانية، وهذا الثنائي له تأثير كبير على القيادة، لأنه يتولى موقع التفاوض، بالتالي هو الذي يوفر المعلومات للرئيس ومكاتبه وكبار زعماء الحزب، لذا، فله القدرة على تفسير الموقف الإيراني واقتراح أفكار ومعالجات وخطوات تجاه طهران، أما كتلة التأثير الأوسع فهي تمثل مصالح نخبوية اقتصادية تتجمع في الملف بما يناسبها، ولها على هذا الصعيد قدرة التأثير على القرارات السياسية الكبرى عبر اللوبيات، وهو أمر طبيعي في الحياة السياسية الأميركية.
كيف توازن الإدارة؟
البيت الأبيض يقع في قمة المؤسسات، وهو المقرر النهائي في ما يتعلق بالقرارات الدبلوماسية والأمنية، ولكنه أيضاً الآلة التي تقود إلى إعادة انتخاب الرئيس، وجو بايدن ليس مختلفاً عن أسلافه ترمب، وأوباما، وبوش، وبيل كلينتون. ففي وضع التفاوض حول العودة إلى الاتفاق، يقع المكتب البيضاوي في منتصف الطريق بين كتلة الضاغطين لقطع التواصل مع القيادة الإيرانية، وأخذ إجراءات ميدانية، ولا سيما في أوساط الدفاع الذين يحسبون المخاطر الأمنية المتنامية، وكتلة المتمسكين بالاتفاق بأي ثمن، وفي الوسط الفريق الذي يقود “العملية السياسية الحزبية”، بمن فيه الإعلاميون، والمدونون… هذا المثلث المحيط بالبيت الأبيض يتسابق لإقناع الرئيس وفريقه الخاص بأي طريق يجب اعتماده في فيينا، المعسكر الأمني الدفاعي يوصي باستعداد ميداني، والفريق التفاوضي يطلب مزيداً من الوقت “لجلب الإيرانيين إلى الطاولة”، والفريق السياسي الذي يهمه رصيد الرئيس، وبالنسبة لهذا الأخير، أي من الخيارين مقبول، إذا ضرب بايدن ترتفع شعبيته، وإذا نجح في التوقيع، ترتفع الشعبية، أما الأسوأ بالنسبة لهم فهو عدم الحركة.
المنطقة
القوى الأساسية في المنطقة هي على اطّلاع على الوضع الحالي في واشنطن، اثنتان من تلك القوى الإقليمية المؤثرة، المملكة العربية السعودية، وإسرائيل، تنسقان بشكل واضح مع الولايات المتحدة، كل على حدة، لمواجهة التحدي الإيراني، أما القوى الثالثة، إيران، فتسعى للاستفادة من موقعها كطرف في محادثات فيينا للحصول على أكبر عدد من التنازلات لتحسين موقعها التفاوضي، وإضعاف خصومها في الشرق الأوسط.
حلفاء أميركا يبغون الدفاع عن أمنهم القومي بوجه إيران، ولكنهم يريدون أيضاً علاقات قوية واستراتيجية مع الولايات المتحدة، أما إيران فهي تستعمل فيينا لتضعف واشنطن وحلفاءها في المنطقة، ما دفع بالقوتين الإقليميتين، المملكة وإسرائيل، كل على محاوره، للتصدي للميليشيات الإيرانية ولصواريخها الباليستية، وهذا بدوره وضع إدارة بايدن أمام خيار كبير، إما دعم حلفاء أميركا، وإما التنازل المتزايد لدولة مُعادية لم تغير مسارها باتجاه الصداقة والسلام.
طاولة فيينا تمثل الـ”شو الدبلوماسي Diplomatic Show”، أما اللاعبون الحقيقيون فهم أميركا، والسعودية، وإيران، وإسرائيل، وداخل واشنطن، واللاعبون الحقيقيون هم أنصار الاتفاق النووي مع إيران، وداعمو مصلحة الولايات المتحدة.