بوتين وأوكرانيا والغرب… غرام وانتقام وخطر صدام
بقلم: رفيق خوري
النشرة الدولية –
صعود الاتحاد السوفياتي اختصره جون ريد بعنوان كتابه “عشرة أيام هزت العالم”. وسقوطه هز العالم أيضاً وخلخل عالم الضابط من جهاز “كي جي بي” الذي كان يعمل في ألمانيا الشرقية، فلاديمير بوتين وقت سقوط جدار برلين. على الصعيد العام رآه “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين، وعلى المستوى الشخصي اضطر إلى العمل سائق سيارة في مسقط رأسه لينيغراد قبل أن يعاد لها اسمها القيصري بيترسبرغ، ثم التقطه رئيس البلدية سوبتشاك للعمل معه حيث زامل ميدفيديف قبل أن يعينه الرئيس يلتسين رئيساً لجهاز الاستخبارات ثم رئيساً للحكومة، ليصبح رئيس روسيا منذ العام 2000.
وما حفر في وعيه الاستراتيجي إلى جانب السقوط ثلاثة أمور، أولها انسحاب الجيش الأحمر من دول أوروبا الشرقية الذي “كان بقاؤه يجنبنا كثيراً من المشكلات”، بحسب بوتين، وثانيها ما سماه مسار “استعراض السيادة” الذي جعل “روسيا تساعد في السقوط بدل أن تتمسك ببقاء الجمهوريات معها”، وثالثها غطرسة الغرب الأميركي والأوروبي حيال روسيا، ومد “الناتو” إلى حدودها عبر ضم الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي أو من الحلفاء من دون مراعاة المصالح والحقائق الجيوسياسية المهمة لروسيا، وكانت سياسة الانتقام وتقوية روسيا قدر بوتين.
أول ما فعله هو العمل بوصية قائد الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين، “اضرب الجدار الذي أمامك برفق، فإن وجدته صلباً تراجع، وإن وجدته ليناً اضرب بقوة”.
عام 2008 جاءته فرصة الاختبار، فجورجيا بقيادة الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي بعد “الثورة المخملية” حاولت استفزاز روسيا بالاتكال على كونها مرشحة لعضوية الناتو والاتحاد الأوروبي، فرد بوتين بضربة خفيفة، وحين اكتشف أن الموقف الأميركي ضعيف ويفضل التعاون مع روسيا أيام الرئيس جورج بوش الابن قام بغزو كبير وفصل أبخازيا، وإقليماً آخر عن جورجيا، ثم قال وزير الخارجية سيرغي لافروف لنظيرته الأميركية كوندوليزا رايس “ميخا يجب أن يرحل”، كما تروي هي في مذكراتها.
عام 2014 قام بضربة أكبر، احتل شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا بعدما كان خروشوف “الأوكراني” قد أهداها إلى أوكرانيا، وكان الرد بعض العقوبات وسط قول الرئيس باراك أوباما لمعاونيه إن “مصالح روسيا في أوكرانيا المجاورة أكبر من مصالح أميركا البعيدة، ونحن نفعل الشيء نفسه في أميركا الوسطى والجنوبية”.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، بحسب إم إي ساروت من جامعة جونز هوبكنز في مقالة نشرتها “فورين أفيرز”، سأل وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر الزائر لموسكو ألكسندر ياكوفليف مستشار غورباتشوف، إن كان انفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي سيُواجه برد روسي عنيف، فأجابه “في أوكرانيا 12 مليون روسي عدا الزيجات المختلطة، فعن أي حرب تتحدث؟”. قال بيكر “حرب عادية”. والواقع أن أوكرانيا كانت جزءاً من روسيا منذ ضمها القيصر إيفان الثالث قبل عقود، وهي مهد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وتشكل نوعاً من “توأم روسيا” بالنسبة إلى الروس، بصرف النظر عن المشاعر السلبية ضد روسيا لدى أكثرية الأوكرانيين، وقبل مدة كتب بوتين مقالة تحت عنوان “حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين”، “البلدان يشكلان شعباً واحداً، والسيادة الحقيقية لأوكرانيا ممكنة فقط بالشراكة”. شيء يعيد التذكير بقول الرئيس حافظ الأسد عن سوريا ولبنان، “شعب واحد في دولتين”.
واليوم يحشد بوتين عشرات آلاف الجنود الروس على الحدود الشرقية لأوكرانيا التي أقام داخلها “جمهوريتين انفصاليتين، ويقف العالم أمام أنواع عدة من الأخطار، خطر صدام عسكري بين الغرب وروسيا، وخطر غزو روسي لأوكرانيا واكتفاء الغرب بما يهدده من عقوبات “غير متوقعة”، ودفع “ثمن باهظ” رداً على الغزو، وخطر ما بعد التنازلات الصعبة في المفاوضات لتفادي الغزو، حيث أقل مطلب روسي هو ضمان أميركي مكتوب لعدم توسيع “الناتو” أو نشر أسلحة صاروخية ونووية في البلدان التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي.
يقول الخبير الاستراتيجي الروسي ديمتري ترينين، “روسيا خرجت من القرن العشرين من بابين، واحد يقود إلى السوق المعولمة في القرن الـ 21، وآخر مفتوح على اللعبة السياسية الكبرى في القرن الـ 19″، وهذا تماماً ما ينطبق على سياسة بوتين، فمن جهة شراكة في العولمة واقتصاد السوق. ومن جهة أخرى عودة لغزو الدول الكبرى للبلدان الصغيرة، ضمن السعي إلى أن تستعيد روسيا شيئاً من الدور العالمي الذي كان للاتحاد السوفياتي.
لكن مشكلة بوتين أن طموحاته أكبر من إمكانات روسيا، ومشكلة الغرب أنه تعب من المغامرات العسكرية وكُلفها من دون أن يتعب من الصراعات وتجديد الحرب الباردة لحماية مصالحه الواسعة.