دروس يابانية
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

يعود تاريخ أول اتصال لي بمواطن ياباني متعلم وخبير ببلاده إلى عام 1968، عندما كنا نتدرب معاً في بنك باركليز البريطاني، ونسكن مع العائلة الإنكليزية نفسها.

تعلمت من «كنجيرو» الكثير عن بلاده وأخلاق الياباني ومعتقداته الدينية المتعددة، وسهولة انتقاله من عقيدة لأخرى، تبعاً للظروف! وسبق أن كتبت عدة مقالات عن تجربتي معه ومع اليابان بشكل عام. كما سبق أن مررت، قبل التقائي بـ«كنجيرو» بسنتين، بتجربة مختلفة مع يابانيين، وكانت لها دلالاتها. ففي بنك الخليج، حيث كنت أعمل، كانت الإدارة العليا للبنك بريطانية صرفة. ولسبب أو لآخر، كانوا يولون تدريبي اهتماماً كبيراً، ويطلبون مني مشاركتهم في بعض الاجتماعات، بالرغم من صغر سني وقلة خبرتي، مع زائري البنك القادمين من مصارف عالمية، ربما بغية دفعي لاكتساب ثقة أكبر بالنفس.

كان لقائي الأول مع ممثلين عن بنك ياباني معروف، وكانت مقابلة مفيدة بقدر ما كانت طريفة وغريبة، فقد تعلمت منها أن وفود اليابانيين نادراً ما تكون مقتصرة على فرد، على عكس أقرانهم الأوروبيين أو الأميركيين، الذين كانوا يقومون بزياراتهم منفردين. كما لاحظت أن أفراد الوفد الياباني كافة يقومون بتدوين كل ما كان يقال في اللقاء. أما الغربيون فكان ممثلهم يكتفي بتدوين رؤوس أقلام مما كان يقال.

***

وفي يوم سألت المدير الاسكتلندي عن سبب الفوارق الواضحة بين حجم الوفود اليابانية وتلك الغربية، وسبب حرص اليابانيين الواضح على تدوين كل كلمة تقال، مقارنة بعدم حرص أعضاء الوفود الغربية على ذلك، فقال إن اليابانيين، بسبب عائق اللغة، لا يودون أن يفوتهم شيء من اللقاء ويتجنبون ذلك بمقارنة نصوصهم بعضها ببعض، مخافة أن يكون أحدهم قد نسي كلمة أو لم يفهم نقطة معينة من الحديث! كما يؤمن الياباني بالعمل الجماعي المؤسسي أكثر من إيمان الغربي بالأمر، بخلاف عدم وجود عائق اللغة أو اختلاف الثقافة عند الأخير مع مديري البنك.

***

عندما زرت اليابان بعدها بسنوات، جلست في عربة أحد قطاراتها السريعة، التي تمتاز بدقة مواعيدها، واخترت عربة هادئة، وكانت خالية تماماً، ووضعت سماعات جهاز الهاتف النقال في أذني، وسرحت مع الموسيقى والمناظر الخلابة، والقطار يسير بسرعة تقارب الأربعمئة كلم في الساعة. وفجأة تقدم مني المفتش وطلب مني تذكرتي، وعندما انتهى من ثقبها طلب مني بأدب جم الانتقال إلى مكان آخر، سألته عن السبب قال إن القانون يمنع استخدام الهاتف النقال في ذلك المكان، وربما لهذا السبب كان شبه مهجور. فقلت له إنني أستمع للموسيقى من خلال سماعة أذن، ولا أجري أية مكالمات، وليس هناك أحد حولي. فقال هذا صحيح، ولكن ماذا لو وردت لك مكالمة ورن جرس هاتفك، وذلك سيسبب ازعاجاً لمن سيأتي للعربة بعد مغادرته لها!

منطقه الواضح دفعني فوراً للانتقال لقاطرة أقل هدوءاً بكثير.

***

وفي أوساكا أخذنا صديق إلى معهد تدريب على الخط، فوجدت أنهم يولون الأمر أهمية كبيرة، ويعتبرونه فناً جميلاً. فتذكرت ما كان يقوله ابن الرومي بأن لذة الشراب تكون أحياناً من جمال الكأس!

كما عرفت من خلالهم مدى ما للوقت من أهمية تقارب القدسية، مقابل عدم اكتراثنا للوقت في مجتمعاتنا لدرجة الاحتقار، من دون أن ندرك أنه بالفعل أثمن شيء في حياة أي إنسان، فاللحظة التي تمر لا تعود أبداً، وبالتالي تجد شركات تسيير القطارات تتبارى فيما بينها على من تكون الأكثر دقة من غيرها في مواعيد الوصول والإقلاع!

***

ملاحظة أعتذر عن غياب مقال الأمس، بعد أن رأت القبس عدم ملاءمته للنشر إضافة لمقالين آخرين!

الشكر لكل من اتصل وغمرني بلطف السؤال.

 

زر الذهاب إلى الأعلى